ليس هناك ما هو أكثر وضوحاً من تصريح كبير الاقتصاديين في وكالة الطاقة الدولية (تير فور مورغن) اثناء إنعقاد مؤتمر الطاقة الأول في البحرين، والذي نظمّه مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة، كأول نشاط بعد تأسيس المركز (أمن الطاقة 2010) بشعار «آفاق التعاون بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون لدول الخليج العربية»، حين قال: “إن الهدف من مؤتمر أمن الطاقة المنعقد في البحرين هو ارسال رسالة الى أصحاب القرار بدول مجلس التعاون بوقف الدعم اللا محدود للوقود ومنتجات الطاقة” (صحيفة الأيام العدد 7887 13 نوفمبر 2010).
هذا التصريح وبصيغة الأمر لدول مجلس التعاون هو ما تعمل عليه جميع المؤسسات المالية الدولية، وفي مقدمتها البنك وصندوق النقد الدوليّان، وهو نهج هذه المؤسسات مع كل الدول النامية الساعية الى الحصول على قروض منها، فعلى مدى عقود ومعظم توجيهات وبرامج وخطط تلك المؤسسات تتلخص في الآتي
- خصخصة الخدمات والمرافق العامة؛ والمشاريع والشركات التي تملكها الدولة.
- رفع الحواجز أمام التجارة ووقف الدعم لسلع استهلاكية أساسية.
- تنفيذ إجراءات تحقيق “مرونة سوق العمل” ورفع الحماية عن القوى العاملة بما ينتج عنها غياب الأمن الوظيفي.
- تفكيك القيود على رأس المال الأجنبي وتحرير وتبسيط أنظمة الأسواق والتجارة المحلية.
- تقليل الإعانات عن أنظمة التقاعد العامة أو تأمين البطالة وتخفيض منافعها مما يؤدي الى تخفيض المعاشات التقاعدية.
- تقليص أو إلغاء أنظمة الخدمة المدنية.
- برامج تقشفية مع زيادة وتنامي في حجم ونسبة الدين العام.
إذا ما تمعنّا في ما تمّ اتخاذه من اجراءات وعلى عدة صعد، نستنتج أنها تتوافق مع نصائح وبرامج وإشتراطات هذه المؤسسات، وهى مطبقة على أرض الواقع عندنا والتي تصاعدت وتيرة الانخراط فيها وبحماس في العشرين سنة الاخيرة والامثلة عديدة: فمعظم القطاعات الخدمية الرئيسية والفرعية في القطاع العام قد طالتها برامج الخصخصة. تمّ تخصيص إنتاج الكهرباء والموانئ والمواصلات والبلديات وبيعها على شركات عالمية، وحتى قطاعي الصحة والتعليم شملهما تخصيص العديد من الخدمات المقدّمة للمواطن.
أما رفع الدعم عن السلع وتحريرالتجارة، فقد تمّ البدء بتطبيقها في الأشهر الأخيرة من نهاية عام 2015 وبداية 2016، حين تمّ رفع الدعم عن اللحوم والمحروقات وما تلاه في بداية 2018 من تطبيق الضريبة الانتقائية، ثم تلتها الدفعة الأولى من ضريبة القيمة المضافة 5%، ورفع سعر المحروقات مرة ثانية في بداية 2019، ليتبع ذلك، مرةً أخرى، رفع الضريبة نفسها إلى 10% في يناير 2022.
وعبر العديد من تشريعات العمل تمّ الغاء العديد من المواد في القوانين المتعلقة بالعمل التي كانت تشكّل حماية نسبية للعامل من الفصل من العمل، أو تُعطي بعض الأفضلية لتشغيل المواطنين، بل تمّ فتح الأبواب للعمالة الأجنبية وصلت إلى درجة إغراق البلد مما جعل سوق العمل في حالٍ من الفوضى لا يمكن إدارتها، خاصة مع تصريح العمل المرن والتأشيرة السياحية وغيرها من القرارات.
وبتنفيذ أمين لتلك التوصيات جاء ما تمّ في برنامج التقاعد الإختياريـ حيث أحيل ما يقارب 9000 موظف في القطاع العام للتقاعد في عملية تقليص لهذا القطاع لتتبعها في عام 2022 تعديلات التقاعد المجحفة في حق جميع المشتركين من متقاعدين وعاملين.
وبكل ما لهذه الإجراءات من تبعات عكسيّة على معيشة المواطن، حيث نشهد ارتفاعاً مستمراً في تكاليف المعيشة، يرافقه انخفاض في دخل المواطن، وغياب الأمن الوظيفي وفرص العمل، وتنامي نسبة العاطلين عن العمل، وتدني الخدمات المقدّمة للمواطنين، فإن إعلامنا الرسمي، وفي مقابلة ذلك، لا زال يتحفنا بين فينة وأخرى، بتصريحات لهذه المؤسسات عن نجاح البحرين في اجراءاتها. فما هى غاية هذه الإجراءات إذا لم تنعكس على معيشة وأمن المواطن إجتماعياً واقتصادياً إلا سلباً؟!
من جانب آخر لا يقلّ دلالة، تتغاضى عنه الجهات التنفيذية والتي تتباهى، في تصريجات المسؤولين فيها، عن رضا المؤسسات المالية الدولية عن الأداء الحكومي، وبمعنى آخر فقد تمّ التنفيذ الأمين لكل تلك التوصيات والبرامج، رغم انه وعلى مدى عقود ومعظم برامج وخطط المؤسسات المالية الدولية في معظم نتائجها وفي معظم الدول النامية لم تكن في صالح العامة من مواطني هذه الدول، خاصة محدودي الدخل والفقراء والذين غالباً ما يتحملون الآثار التوزيعية لهذه البرامج، وهذا ما يتجلى بوضوح في وضعنا المعيشي الراهن في البحرين.