هيمنت شخصية “حسن الصباح” على فضول شريحة واسعة من متابعي مسلسل “الحشاشين” لمخرجه بيتر ميمي خلال شهر رمضان المبارك.
الصباح الذي كان يقود أشهر أفكار الفرق الباطنية، وهي مذاهب تدّعي أن للقرآن والسُنة ولكل ظاهر باطن مخبوء، يملك مكنونه أئمة حاضرين وفي حالة غيابهم مُتلقين عنهم.
رسمت الدراما التاريخية للأحداث علامات استفهام عديدة: من هو حسن الصباح؟ أهو فقيه جليل أم شخصية تحمل مدارك غامضة أم ثائر عنيف ومقاتل؟
يؤكد القائمون على العمل بأن المسلسل يستلهم التاريخ ولا يهتم بتوثيقه على نحوٍ تصاعدي، لذلك تستحضر السطور الآتية انطباع متواضع عبر كل الشواهد من عالم الدراما ذاتها، لا من الأطروحات التاريخية.
في البدء يظهر حسن كطفل استثنائي موهوب يمتلك نباهة وفراسة تحيطها الذهول والغبطة! كمس غيبٍ خفي يستدير حول رغبة والدته في إلمامه بأسرار الحروف والأرقام ومناجاة القمر وهي مساورات لعلوم تتراوح بين السحر والباطنية والكابالا اليهودية.
يشدد “عبد الرحيم كمال” على هذا التأسيس السحري لمواهب الطفل وعلاقته بعوالم الخوارق عند سقوطه في بئر، ويحتاج للخروج منه لعقد صفقة فاوستية سيئة الصيت مع كيانات خارقة تورطه بعهد اختيار الظلام بدلًا من النور.
يرسم “عبد الرحيم كمال” لحسن ملامح فتية في صورة متعددة، كثائر سياسي ينبض قلبه بالنبل ويصبو لتغيير العالم مع أصحابه الذين اتفقوا على مساندة بعضهم _مهما اختلفت مذاهبهم_ والقارب الذي سيصلوا من خلاله لصورة العالم التي أدركوها بقلوبهم. يمتلك “الطوسي” طموح المآرب السياسية ويمتلك رهافة الشعر “عمر الخيام”، بيد أن “حسن الصباح” لا تمن عليه أية ملكة ولا يظهر أثر لعهد الظلام القديم الذي استحوذ على طفولته.
شدّد المؤلف ”عبد الرحيم كمال” على رغبته باستعادة شخصيات سحرية في محيط السرد الدرامي بقدرات خارقة ولُغة صوفية مجازاتها رنانة تتأرجح بين الحكمة والدجل. توليفة فنية قادرة على خلق هالة منقذة أو مسخ مدمر، خرج منه “ونوس” الشيطان المضلل و ”عرفات” الولي الحامي في جزيرة غمام.
وهكذا بدت شخصية “حسن الصباح” شخصية هلامية أكثر تركيباً من شيطان أسود في عالم البشر أو ولي مؤيد أبيض من عالم الغيب. مما جعلها تتماهى الشخصية بإيماءة خيّرة وتعبير شرير لنرى تصاعد متناقض بعض الشيء بوصول حسن لطور الرجولة.
يُبايع الصباح الداعية الباطني “ابن عطاش” بأهدابه المعلقة بالدين وبفؤاد ينبض بصدق دامع ولا يتردد على نُصرة الإمام ودعوته سراً وعلانية ولكنه في اللحظة ذاتها يدعو تابعه لقتل مؤذن أصفهان الذي رفض دعوة الباطنية! فهل يؤسس للبطل الدرامي كمُتطرف دوغمائي حادّ أو كسياسي براغماتي يُحاول تشييد مكانته في عالم الدعوة الجديد الذي انتمى له؟
ينجح حسن في مط خفايا رؤيا لم يحضرها ويُظهر كرامات بخشوع منقطع النظير تسمح له بدخول قصر المُستنصر، وفي الوقت بعينه يدّعي كرامة كاذبة تُنقذه وركاب سفينته من غرقِ محتوم بينما يلوح كتاب حركة الرياح حاضرا في المشهد، فهل يخلق البطل الدرامي كولي حقيقي يبصر الغيب أم كمسخ أرعن يُظهر للعيان علومه ف صورة خلابة لاستدعاء القلوب وألبابها؟
وندرك ذروة تراكب الشخصية الدرامية حين يُحاول صانع العمل حل العقدة المنسوجة بمفاتيح وتواترات درامية ومتذبذبة برؤيا سحرية يتوجه فيها الصباح بالزي الأسود ‘البراغماتي الدجال” لقتل الصباح بالزي الأبيض ”المؤمن الحالم” ليُبلغه بأن شدة إيمانه بالعدل أوصلته لهذا المطاف. ومنذ هذه اللحظة يتحوّل “حسن الصباح” من شخصية مشوشة بسلطات درامية هشة خطوطها إلى شخصية طاغية جوفاء تتنكر لمذهبها وتُعذب رفاقها ممارسة التقية السياسية، وتستميل العامة وتعادي العلماء.
يتيسر استلهام إسقاطات السرد الدرامي على الواقع الحالي، إذ يفرط في تأطير المُقاربات بينما يتساهل في شرح الحالة التاريخية المركبة مما يجعل المُتلقي العادي تائهاً في غمرة صراع تاريخي لم يُشرح بشكل وافي بالرغم من الاستعانة براوي في مستهل كل حلقة يوجز برتابة مهلهلة نوايا البطل وحيثيات رحلته. وتتجلى شخصية حسن الصباح الدرامية بارزة إلا لنفسها وإمكانياتها، شخصية لكاتب درامي بالغ في خلق شخوصه بهالة ضخمة مُستدعاة من عالم صوفي مموه بنبرة مفترضة.
هل أخلصت الشخصية لحقبة سياسية تسترجعها في قالب ذاتي لتأكيد فكرتها عن الإسلام السياسي؟ وهي الفكرة الأكثر خطورة وتركيب في كل عصر من تحويلها إلى تعويذة بمواصفات ثابتة؟ هل نجع المخرج في استخدام التقنية والدرونز، بينما تكرر انبهاره الخفي بالثيمات الغربية الغارقة بكروما خضراء فانتازية ومحاكاة في التتر والمشاهد بأجواء “لعبة العروش”؟
قد لا يرتبط الالتزام بالفصحى في الأعمال التاريخية بدواعي الدقة في التوثيق، إنما ببراعتها الذكية في تأكيد الإيهام وهو الحلقة الأهم بين المتلقي والدراما، إذ أنه من المجاورة بعض الشيء استخدام ”العامية” سيما وهي تبرز لغة عامية ذكية مطعمة بنكهة فلكلورية تُناسب أجواء العمل إنما عامية دبقة.
تسيطر على الخلافة الإسلامية قوانين علم الاجتماع التي تقيد كل الحضارات، بينما يحاول الاستشراق بشكل دائم التعامل مع الحضارة الإسلامية كشذوذ سحري ظهر إلى العالم خبط عشواء مما يُثقل هذا التأمل ويستقرأه بهالة سحرية مشوشة قد نمسها في التناول التاريخي لظاهرة الحشاشين من فرقة دينية أفرزها واقع تاريخي وسياسي لحالة سحرية من الشر والعنف. يبرز مسلسل “الحشاشين” شخصية وعالم يوازي كتابات المستشرقين، شخصية كثيفة بكل المساورات تتجلى في كل الاتجاهات إلا إنها تبدد جوهرها.