لحظة تمزيق الهويّة الصهيونية
“أنا أكتب رواية تاريخيّة عن مريم المجدليّة .. وبيئة الرواية هنا في هذا السهل وقرية اللجُّون المهجّرة. ولا يمكنني الوصول إلى هنا بحرّيّة مستخدماً هويّتي الفلسطينية، فانتحلتُ هويّة صهيونيّة”. هذا ما قاله الراوئي الأسير الفلسطيني باسم خندقجي والمحكوم عليه بثلاثة مؤبدات وهو يقبع اليوم في سجن (عوفر) في روايته (قِناع بلون السّماء). لقد اختصر ما أراد قوله بشكلٍ مكثف، ليتحفنا بأروع ما يتوصل إليه المخيال من فن روائي ومن إحساس نابع من قلب الحدث والمعاناة اليومية مع دولة بني صهيون العنصرية.
يقول أيضاً “دعني أزفّ لك نبأ نجاحي باختراق السور الدفاعيّ الصهيونيّ الأول “طبعاً لن يحدث هذا الاختراق إلاّ بما توصل إليه من حيلة تتمثل في حصوله على هوية بالصدفة لأحد الصهاينة واسمه أور شابيرا ليستخدمها بدلاً عن هويته الفلسطينية والتي تحمل اسمه الحقيقي نور مهدي الشهدي.
نور بولادته ماتت أمّه نورا وهي في سن لم تتجاوز العشرين من عمرها، قضت بعد إنجابه بلحظات متأثرت بنزيفٍ حاد، واعتقل والده بعد زواجه بأسابيع ليعود الوالد من السجن بعد “خمسة أعوام مخذولاً مُختلّا صامتاً مصموتاً” ليظلّ تحت رعاية جدّته سميّة التي زوّدته بحكايات بلدته اللدّ وأمّه نورا.
يلجأ لصديقه مراد ليخفف عنه توّحده وصمته، إلا أنّ مراد يُعتقل ويحكم عليه بالسجن المؤبد ليعود نور من جديد لتوحده، كما أنّه قد خسر المنحة الدراسية التي حصل عليها لرفض والده وبشدّة استلام أية مبالغ من سلطة لم تهتم له ولا لعائلته أثناء أعتقاله “ما خذله هو النكران الجارف والجاحد بحقّ أسرته الصغيرة المكوّنة من أمّه وطفله اليتيم طيلة سنوات أسره، وحكمه الجائر القاضي بخمسة وعشرين عاماً في السجن قضى منها خمساً، خذله أصدقاؤه ورفاق دربه في النضال والانتفاضة الذين انشغلوا بأبّهتهم الجديدة التي تراقصت فوق مائدة السلام المختل وسلطة الوهم والحيرة”. والمقصود هُنا سلطة رام الله بعد اتفاقية أوسلو المُذلة.
التفكير في الخروج من مأزق حياة المخيم التي لا يرى فيها جديداً ليتسائل نور: “هل سيغدو المخيّم بعد سبعين عاماً أو أكثر من أكبر المواقع الأثريّة التاريخية في العالم الدالّة على عمق عقلنة التوحُّش الإنسانيّ؟”
للخروج عن مألوف هذه الأوضاع يلوذ إلى شغفه بالآثار، وهو الذي كان دافعه دراسة التاريخ والآثار، واتته الفرصة إذن حين أمّن له أحد متعهّدي العمال من فلسطينيّ القدس المحتلة عملاً لمدة أسبوعين في موقع آثاري غرب القدس.
من هنا يبدأ في تقصي أحوال البلدات والقرى المحتلة من قبل الكيان الصهيوني من خلال استخدامه لتلك الهوية المزوّرة، وعلى الرغم من خطورة اكتشاف أمره، صمم على هذه المهمة وجازف بحياته للوصول إلى مستوطنة مجدو التي لم تكن سوى أنقاض قرية اللجُّون المنكوبة والتي استولى عليها الصليبيون ثم استرجعها صلاح الدين عام 1187 م وهي “بلدة خصبة، ويانعة، ومليئة بالينابع العذبة”، وفي سنة 1931، كان سكان اللجُّون يتألفون من 829 مسلماً و26 مسيحياً ويهوديين اثنين. تمّ قتل العشرات من أبناء القرية وتهجير بقيّة سكانها.
لا شك إذن من أن القناع الذي استخدمه نور من خلال أور شابيرا أتى بنتائج مبهرة في كشف حقيقة زيف الاحتلال الصهيوني في تزييف الحقائق باستخدامهم للتوراة في اسباغ تسميات يهودية على أماكن وبلدات وقرى فلسطينية. وما سهّل لنور للقيام بمهمته هذه شعره الطويل المجعّد والعينان الزرقاوان واللغة العبرية ذات اللكنة الأشكنازيّة، فإذن “ملامحه ولغته العبريّة المتقنة كفيلتين بمروره الآمن إلى مقاصده الأثرية التاريخية الخاصة ببحثه عن أصول وأقدار مريم المجدلية”.
ما يُميّز هذه الرواية هو القيمة الفنية التي أجادها الكاتب ببراعة في خلق حوار بين نور وقناعه أور:
– “هل ستفضحني يا أور هل ستقول لهم: إنّني لاجئ فلسطيني؟
– لا أعلم دعنا ندخل الآن.. فأنا متحمّس للغاية لخوض هذه اللعبة”.
بدأت اللعبة بدأت كما يقول نور الفلسطيني لقناعه أور الصهيوني منذ أكثر من سبعين عاماً .. “حين زرع أجدادك هذا الجبل بالجثث والأشجار لإخفاء بقايا معالم قرية أبو شوشة التي هجّرتم أهلها وقتلتوهم إبّان نكبة 1948”.
والحوار يستمر بين نور وأور ليؤكد الأول للثاني بأن انتحاله للهوية سيمنحه كلّ البيانات ليسهل له التعرف على البلاد التي سلبتمونا إيّاها، “أنا أريد أن أدركك لكيلا أصير مثلك.. أريد أن أستخدمك لكي أتحرّر منك”. بتلك البطاقة المزوّرة يصل نور أو أور من خلال البعثة الأآاريّة التي انضمّ اليها وبعد اجتيازه للحواجز الأمنية إلى مستوطنة مشمار هعيمق، ليقول “إنها المرّة الأولى التي أدخل فيها إلى مستوطنة، فأنا الآن في عقر الكيبوتس .. أقصد المستوطنة”.
يفاجأ نور والمقصود هنا أور بوجود فتاة فلسطينية ضمن البعثة، سماء إسماعيل من حيفا وتعرّف نفسها لبقية أفراد البعثة، بأنها طالبة دراسات عليا في حقل الآثار، من هذه البلاد ولم تقل من إسرائيل. “جاءه الصوت الأنثويّ المبحوح من جانبه، انبعث عن يساره من فتاة مُتّشحة بحرير شعرها وملابسها السوداء، مسّت نخاعه بقشعريرة حادّة كادت تطيح به عن القاعة، كاد أن يغيب نور الشهديّ، أن يسقط من شدّة وطأة الاسم العربي الفلسطيني سماء إسماعيل من حيفا”. إنه القدر إذن كلاهما من فلسطين، ولكن لوجود القناع الصهيوني الذي ألبس نفسه به وأصبح أور لم يستطع التواصل مع سماء ليبوح لها أخيراً بأنه ليس يهودياً..”أنا عربيّ مثلك”.
لم تصدّقه. “هل تريد أن تلعب معي إحدى ألاعيبكم القذرة ؟، أنا أعرف تماماً أنّ عناصر الشاباك يتقنون العربية”. الحوار الذي دار بينهما انتهي لعدم تصديقها له بأنه نور وليس أور، الا أن الرواية تنتهي بخلع القناع وتمزيق الهوية الصهيونية، ويخرج هاتفه من جيبه ليعيد برمجته إلى اللغة العربية لتأخذه سماء إسماعيل بسيارتها بعيداً عن الصهاينة بعد أن صدّقت روايته “اصعد أيُّها المجنون. لقد صدّقتك. صدّقتك بالأمس فقط .. ولن أتركك وحدك في هذا الطريق، فالبلد كلها اشتعلت”.
رواية رائعة متقنة الصنعة، أخذت جانباً مهماً من معاناة الشعب الفلسطيني، وهو الجانب التاريخي من خلال التنقيب عن الآثار لفضح السرديّة الصهيونية عن كذبة إسرائيل في حقيقة وجودها، مما زعزع أركان سرديتها بهذه الرواية، فتأهل وبجدارة لجائزة BOOKER العربية.
رواية مهمة تجعل القضية الفلسطينية شاخصة أمامنا حارة دافقة. طبعت للمرة الرابعة في هذا العام لما احتوته من معلومات عن فلسطين التاريخية وصار لها صدى قوي في الداخل الإسرائيلي مما زاد حنق الكيان الصهيوني على الكاتب.