لم يكنْ سهلاً أو بسيطاً، أن يخوض كاتبٌ مُبتدئٌ موضوعاً في التاريخ. ليس لصعوبة العمل فيه – في ظل توافر الإمكانيات المعرفية الحالية – بل لأنه يحمل مسؤوليةً كبيرةً، في البحث والإستدلال والتوضيح. وقد تناول الموضوع السابق، الأبعاد التاريخية لأحوال الشرق والغرب – من خلال متابعة تاريخهم الإنساني – الذي لا يزال، حتى اليوم، متفاوتاً ومتأرجحاً بين الإخضاع والتفاوض؛ في مساراته السياسية والاقتصادية والفكرية. وإن الصيغة المستقبلية في شأن هذا التاريخ، ستبوح به العناصر المخلصة والمهمة؛ الأيديولوجية والبنيوية والمادية – ومن خلال التحالفات المركزية فيما بينها – والتي جائت وتبلورت تحت عنوان: الإنسانية والإستقلال والمصالح المشتركة.
(1)
كان تساؤلاً ضرورياً، ذالك الذي طرحه عنوان المقالة السابقة، في بحثه طريقةً تُوصلنا نحو صيغةٍ إنسانيةٍ جديدة. هذه الصيغة، التي نعرفها ونعيشها من خلال مفاهيم مثل «الحداثة والنهضة». ولكن هذه المفاهيم، لا زالت متراجعةً جداً – بحسب تقديرنا – عن المفهوم الحضاري الأهمّ.. ذالك الذي يعكسه مبدأ «الخير العام»؛ من خلال مشروع المواطنة ومعاني الدولة.
إن الأهمية الجوهرية في هذا المبدأ، أنه يعمل على مواكبة القواعد الأولى للإصلاح السياسي والاقتصادي في الدول والمجتمعات. وعندما نكتب عن هذه المعادلة المهمة، فهو لأننا نراها شبه منسيَّة، لدى القائمين على السلطة والإدارة في بلداننا. وبلدنا البحرين، هو من أوائل الدول التي تفتقد كثيراً لمثل هذه العقلية – التقـدمية والإيجابية والحضارية – تلك التي ترتقي حقاً بأحوال المجتمع والدولة والناس.
(2)
عندما حاولنا في المقالة السابقة، محاولة فهم التسلسل التاريخي، لقصة التحديث في الشرق والغرب؛ فإننا توصلنا، حينها، إلى ضرورة فهم ودراسة غايات هذا التحديث؛ ذالك الذي يقودنا فعلاً، نحو تحقيق قيم الإنجاز والتقدم والحضارة. وهذه القيم، هي الصيغة الأكثر أهمية ومقاربة، من أجل تفعيل وصياغة مشروع «الخير العام».
ما هي الحضارة..؟ هل هي فقط الحداثة العمرانية والحياة الاستهلاكية..؟ بالتأكيد لا. هنالك قواعد ومعطيات توافرت لدينا، ولكننا لم نصنعها، بل وصلتنا عبر «الطريق»؛ ولم نكن – في هذه المسألة – في موقع «المصدر». وهو أمـرٌ لا يَـعيبنا، ولكن الذي يُـعيبنا، حقاً، هو أن نبقى ذاهلينَ وجامدينَ عن العمل والابتكار والوصول.. لأن نكون في موقع «المصدر»، أو قريبين منه، على الأقل.
إن تعريف معنى ومفهوم كلمة «المصدر»، هو أن نكون في دور وموقع الحضارة. وهذا الدور – الذي نراه ضرورياً – هو أحد الأساسيات الهادفة، التي تقوم وتنتمي إليها، الدول والمجتمعات في الحياة العصرية. والحضارة، هنا، تعني أن نتعرف على السياقات البنيوية لمشروع التقدم الاجتماعي وبناء الدولة؛ والتي نترجمها من خلال التحديث وبناء المؤسسات ومركزية الدولة. وإن تراجع وغياب هذه العقلية الحضارية، قد ساهمت في فتح الأبواب، من أجل تفعيل وتمرير برامجِ وسياساتِ (الهيمنة) على المؤسسات – أي على المنجزات والقواعد الأولى – للمجتمع والدولة.
(3)
مشاريع التحديث وبناء المؤسسات – في الخليج عموماً والبحرين خصوصاً – قد انطلقت فعلياً في مرحلة السبعينات من القرن الماضي. وهذه المشاريع، قد عكست مفاهيم الحضارة والتقدم في المجتمع. وإن فكرة الدولة – بمكانتها ومنجزاتها ودورها – قد كانت هي الرائد الأول، في ثبات وترسيخ المنظومة الخليجية. ومن المهم جداً، أن نقرأ وندرس سياقات «الحداثة» في دولنا ومجتمعاتنا، من أجل تطويرها وتحديثها بالطريقة الصحيحة؛ تلك التي تخدم الأساسيات التي نهضتْ من أجلها في المقام الأول، أي منذ بداياتها. ذالك لأن (المنهجية الرأسمالية)، التي يستثمرها ويمدحها – عِلماً أو جهلاً – بعض القائمين على السلطة والإدارة في بلداننا، تحت عناوين (التطوير والتجديد)؛ والذي ينتمي، في حقيقته، إلى التضييع والإهمال لمعاني «الدولة الريعية»؛ تلك التي نراها ونعتبرها، من أفضل المنجزات الايجابية في الحياة الخليجية.
مجدداً، يجب أن أعترف – هنا – بمعرفتي المتواضعة، بمنهجية السياسات الرأسمالية. ولكننا في البحرين والخليج، نتسائل حقاً، عن الأفكار الرئيسية التي تساهم بحماية منجزات «الدولة الريعية»؛ التي هي بحاجة حقاً إلى الإصلاح الذاتي، وليس إلى التخلي عن مسؤولية إدارتها وتسليمها نحو (منظومة الشركات الربحية)؛ التي ستزيد من تكاليفنا المالية، وتجعل من الرقابة والمحاسبة فيها، أكثر صعوبةً وتعقيداً من السابق. وهذا هو التراجع والإنهزام بعينه، وهو شديد التعقيد والخطورة؛ على طموحات ومشاريع الإصلاح السياسي والاقتصادي – وأيضاً على منجزات الدولة – التي تراكمت وتواصلت عبر العقود الماضية.
إذاً، مفهوم «الخير العام»، يتبلور عبر مركزية الدولة ودورها في الإدارة والمحاسبة؛ ومن خلال سياسات التأميم والرقابة الشاملة، على الأموال والميزانيات العامة، وأيضاً على المؤسسات في المنظومة والسلطة التنفيذية؛ أي على الحكومة وبرامجها ووزاراتها. وبعد ذالك، على مصروفاتها ونفقاتها واحتياجاتها. وكل ما سبق، يحتاج فعلاً إلى حيوية الأداء السياسي، الإيجابي والحقيقي، وأيضاً إلى الحريات والصحافة الناقدة. وهنا نأتي إلى الجانب الأكثر مسؤولية وصراحة في هذا الشأن، وهو وعي المجتمع، بجميع فئاته؛ نحو قيم «الخير العام والمصلحة العامة»، تلك العابرة للحسابات التقليدية، والمتمثلة في المذهبية والأنانية والرجعية، البعيدة كل البعد عن المصلحة البحرينية.
(4)
في بلدنا البحرين، تمضي السياسات والتوجهات البعيدة عن قيم المصلحة البحرينية والمصلحة العامة؛ في المضي نحو خياراتها الخاطئة وغير العقلانية.. من خلال تفعيل خطوات (الخصخصة والتأمين الصحي) لقطاع الصحة في البحرين، عبر الأدوات الإدارية والمهنية الناعمة. وهذه الأدوات، (الآلية حقاً..)، قد بدأت تعمل بالتدريج، على تمرير منهجيتها الجديدة؛ وهي مشاركة المواطنين في تغطية النفقات والميزانيات العامة للدولة، على حساب حقوقهم ومكتسباتهم الصحية.
وأثناء زيارتي الأخيرة، قبل شهرين، للمركز الصحي الذي انتمي إليه، قرأت إعلاناً جديداً، بالقرب من لوحة الإرشادات، يوصي فيه المواطنين بالتوجه إلى قسم السجلات في المركز الصحي، من أجل استلام البطاقة الخاصة، والتي تحمل إسم وشعار: (صحتي). وهذه البطاقة الجديدة، هي المسار الأول، في تفعيل سياسات الخصخصة الضريبية على البحرينيين؛ وتحت مظلة (التطوير والأمان والنوايا الحسنة)، يتـمُّ تمرير سياسات الضرائب، وإفراغ جيوب المواطنين من مكتسباتهم وحقوقهم.
إن سياسات الخصخصة الضريبية، تعمل – وعلى كافة الأصعدة – من أجل إحصاء ومعالجة تحدياتها الاقتصادية؛ على حساب جيوب المواطنين ومكتسباتهم الوطنية. وفي سياق العمل على ذالك – أي تفعيل الضرائب المالية على المنظومة الصحية في البحرين – فقد ترافق مع التحديث الأخير، إلى التطبيق الذي يحمل الإسم نفسه: (صحتي)؛ والذي ينتمي إلى وزارة الصحة البحرينية، إضافة أحد الخيارات الجديدة فيه، والتي حملت عنوان: (إدارة بطاقات الدفع). وقد تزامن هذا التحديث، مع نهاية شهر فبراير الماضي تقريباً.
نحن في البحرين، نُدرك ونحترمُ كثيراً، الجهود الرسمية والحكومية، على جهودها الكبيرة والعظيمة، تلك المرتبطة بالرعاية والخدمات الصحية. ولا نتجاهل أبداً، الأعباء المالية والمصروفات المهمة التي تتحملها ميزانية الدولة؛ من أجل تقديم الرعاية الصحية للمواطنين البحرينيين، وللمقيمين أيضاً. ولكن هذه السياسات الضريبية، قد توجهت نحو أكثر الوزارات ضرورة وحساسية؛ من أجل معالجة تحدياتها المالية والإدارية، وعلى حساب أحد أفضل المنجزات والمكتسبات في الحياة البحرينية. وإن التوجه نحو (خصخصة قطاع الصحة)، هو الخيار الأكثر سهولة ووضوحاً – بحسبِ منطقِ حِسابِ المصروفات العامة للوزارات – في إصلاح الأحوال الاقتصادية المبعثرة؛ نتيجة الأخطاء الإدارية المتراكمة، تلك المرتبطة بالنفقات وميزانيات الدولة.
(5)
إن أزماتنا المالية والاقتصادية في البحرين، تنتظر حقاً تلك القرارات الحكيمة والعادلة والمخلصة؛ التي تواجه حقيقة التراجعات المالية والإدارية في سياساتنا الوطنية. والخيارات الإصلاحية الصادقة، تستطيع دائماً، الوصول إلى مراكز القرار ومواجهة التلاعب والإهمال بثرواتنا وأموالنا. وأما الجانب المتعلق بمسألة (الدين العام وارتفاعه)، فهو يكمـنُ جلياً في الفساد الإداري وغياب التحرك والمسائلة، الدستورية والقانونية، على هدر وسرقة الميزانيات العامة. ولدينا أيضاً – العامل الأكثر تعقيداً – وهو تسهيل القوانين وتمكين الأجانب من غير البحرينيين، على غالبية الوظائف والتخصصات تقريباً، في القطاع العام والخاص. والأرقام المفزعة، والتي يتـمُّ الهروب والاحتيال عليها – في الإعلام الرسمي وغير الرسمي – مِـنْ أن هناك 750 ألف أجنبي في سوق العمل البحريني، مقابل 250 ألف بحريني. وإن هذه الاحصاءات، تدعونا للوقوف والمصارحة فعلاً، نحو مستقبل ومكانة بلدنا البحرين. وليست هذه الأرقام في سبيل المبالغة أبداً؛ ومَـنْ يرى الحياة العامة، في الشوارع والمؤسسات والشركات، يدرك تماماً، صعوبة وأهمية المسألة.
(6)
بين السياسة والاقتصاد والثقافة، هنالك الكثير من التباينات والمشتركات والقيم. وهذه المصطلحات الثلاثة، هي الصيغة الحضارية والعصرية، لفهم وإدراك عالم اليوم. وسنبدأ بتعريف هذه المصطلحات المهمة، من خلال الغايات الإنسانية والايجايية إليها؛ وهي أن السياسة، تعني بالقدرة على الإدارة والقيادة. وبأن الاقتصاد، يعني بالقاعدة التنظيمية للأموال والثروات والإمتيازات الصناعية والتجارية، وأيضاً للقدرات البشرية والعلمية والأكاديمية. وأما الثقافة، فهي الصياغة والحصانة الفكرية والأيديولوجية؛ التي تؤمن وتبني وتخترع، المشاريع والطموحات والاستراتيجيات، من أجل صياغة «الطريق» والمكانة في المستقبل. وكلما كانت هذه الصياغة نزيهة وعادلة، ستكون حينها، واثقةً وحاضرةً في موازينِ العصرِ والعالمْ. ولا نستطيع أن ننسى هنا – عند بلورة هذه الفكرة – التأكيد على الأسباب الهادفة والعظيمة لذالك، والتي تتمثل في «فلسفة» الحكمة والذكاء والقوة.
إن هذه المقدمة المتواضعة، تدفعنا أن نتحدث عن الإنحدارات الرأسمالية، في منظومتنا الاقتصادية والإدارية. وهي أن (دولة الرعاية الاجتماعية) – تلك التي تحدث عنها الوزير والقدير الدكتور علي فخرو – قد بدأت بسياسات التراجع التدريجية؛ خلال المراحل والسنوات القليلة الماضية. وتراجع الإصلاح السياسي والاقتصادي، يقابله، غالباً، صعود التوجهات الرأسمالية ونفوذها؛ والذي يتمثل في سياسات الخصخصة، على حساب تهميش وتقليص مبادئ العدالة الاجتماعية ومكانة الدولة. وتفعيل وترجمة هذا التوجهات، يكون عبر الإعداد والتوكيل في إدخال وزارات الدولة ومؤسساتها وخدماتها، نحو معادلات التسليع والأرباح – الخطيرة والسيئة – وبرعاية (الشركات التنافسية)، تلك التي تطمح دائماً في الوصول إلى أموال وخزينة الدولة.
(7)
التحديات الكبيرة والمراحل الصعبة والقاسية، التي مرت على بلدنا البحرين – طوال السنوات الماضية تحديداً – تدفعنا حقاً، أن نقف أمام ذواتنا وأنفسنا، بل وأمام تاريخنا وإنسانيتنا؛ دون أن نبقى تائهينَ وخاضعينَ، للمسارات التي علَّمتنا الكثير والكثير من المعاني والدروس. وإن أبلغ الدروس التي منحتنا إياها هذه السنوات الحاسمة والمفصلية، هي تلك الأسئلة المصيرية؛ والتي رأيناها من خلال تراجع الوحدة والتعاون والمشتركات الإنسانية، وصعود الأنانية والإنقسام وتضييع الهوية الوطنية.
هل تهزمنا الأنانية..؟ هذا هو السؤال الكبير أيها البحرينيون. نعم، إنه يتوقف عليكم، وعلى حاضركم ومستقبلكم. فهل سنساهم حقاً في تمهيد «الطريق» الأفضل والأسمى، لنا ولأجيالنا القادمة؛ من خلال تأصيل قيم العدالة والإنتماء والإنسانية في حياتهم..؟
وإن الوسيلة من أجل تحقيق ذالك، هو أن نقوم بالتفكير والإختيار والتأمل.. في تعزيز معاني تحمل المسؤولية – تلك المتعلقة بشؤون بناء هذا الوطن وارتقائه – نحو آماله المنشودة؛ تلك التي تنتمي إلى قيم العدل والمواطنة والمستقبل. ذالك المستقبل، الذي يرتقي عن التمييز والمزايدة، وينتمي دائماً إلى الإنصاف والمحبة. تلك المحبة، التي لا تعرفُ سِوى تحقيقِ غايةٍ واحدة، والتي تتجلَّى في مفهومِ وكلمةِ “الهوية البحرينية”.
(8)
البحرينيون، اليوم، يتطلعون جميعاً إلى المزيد والمزيد من الخطوات والمسارات، التي تساهم بتعزيز الوحدة البحرينية الحقيقية، من خلال مبادرات الإصلاح السياسي والاقتصادي في حياة البحرينيين. ومفهوم المصلحة العامة والخير العام – كان ولا زال – عنواناً راسخاً وثابتاً في ثقافة البحرين والبحرينيين. وإن الفرحة الكبيرة التي غمرت أهل البحرين، بعد مبادرة «العفو الملكي»، بالإفراج عن أكثر من 1500 موقوف؛ على خلفية الأحداث السياسية والتحركات المطلبية – في نهاية شهر رمضان المبارك – كانت الدليل الأكبر على ذالك.
وإن هذه المبادرة المهمة، قد وصلت إلى جميع القرى والمناطق البحرينية، وقد بادرها البحرينيون بالشكر والتقدير.. في أماكن التهنئة والإستقبال، وأيضاً على حِسابات التواصل الاجتماعي. ولا توجد كلمة في الحقيقة، تستطيع أن تصف هذه الأجواء المبهجة، سِوى (أن العيد قد أصبح عيدين..)، بحسبِ لهجةِ أهل البحرين. وقد كان مساء يوم الإثنين – والذي كان بتاريخ 8 أبريل 2024 – متميزاً ومفرحاً حقاً، في الحياة البحرينية.
موفق اخي جعفر
Comments are closed.