في ظلّ التحولات التي بات يشهدها العالم خلال السنوات الأخيرة، وتتابعها الشعوب بمزيج من التفاؤل أحياناً، والقلق وربما الخوف آحايين عديدة، يبدو من المنطقي جداً أن نتلمس ونتفهم كل تلك التفاعلات الكامنة منها والظاهرة للعيان أحيانا اخرى.
ربما يعزى ذلك، في جزئية مهمة منه، إلى ما أحدثته تحوّلات التكنولوجيا الرقمية بما فيها وسائط التواصل الاجتماعي من انكشافات مهمة، وفضح متوالٍ لسياسات بعض الأنظمة والمجموعات السياسية والاقتصادية، خاصة تلك التي أحكمت قبضاتها على مصير العالم لعقود، ونعني بها بالطبع ما اصطلح على تسميته لسنوات طوال بدول الشمال الصناعي الغني بما يعجّ به من منظومات وأحلاف سياسية وعسكرية، ومصادر تمويل رهيبة في مقابل مساحات واسعة من دول وشعوب ما عرف بالجنوب الاستهلاكي الذي اريد له ان يكون تابعا خانعا الى ما لا نهاية! مجرد اسواق مفتوحة لا تملك حتى مجرد القدرة على صياغة قرارها الموحد، او حتى تحقيق سيادة فعلية بالنسبة لسياساتها، بل وحتى بشأن حماية حدودها الجغرافية.
فقد بقيت سطوة قرارات الدول الاستعمارية ملموسة في كل قرارات وتوجهات دول الجنوب وكأنها قدر محتوم بكل اسف، كيف لا والأخيرة بقيت مكبلة باتفاقيات وشراكات وقواعد عسكرية هي امتداد لبقاء وديمومة ذات المصالح الاستعمارية وهيمنتها التي يصعب الانعتاق منها. والحديث ربما يطول في محاولتنا فهم مسببات كل ذلك وتاريخية ما جرى من حروب ومحن وانقسامات وتمزيق لدول وشعوب يراد لها أن تكون متناحرة بإرادة المستعمر، خاصة بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، يضاف إليه بطبيعة الحال، ما أفرزته الحرب الكونية الأولى من تحوّلات كبرى على مختلف الصعد.
وإذ نعيش راهناً إرهاصات تحوّلات كبرى بات العالم يتهيأ لأحداثها المرتقبة والتي تشي بزلازل سياسية واقتصادية يصعب التكهن بها، يصبح من المهم القول إننا كدول وشعوب بتنا اكثر استعدادا عن ذي قبل لتفهم ضرورة خلق ديناميكية سياسية جديدة تأخذ في الحسبان ما استوعبته دول وشعوب الجنوب حتى الآن من دروس وما مرت به من أحداث مزلزلة وحروب ومحن وكوارث سياسية واقتصادية، ومصادرة لثرواتها الضخمة مع إصرار الدول الاستعمارية على استنزاف ما تبقى من ثرواتنا والإمعان في افقار شعوبنا، وهو ربما نجد بعض إرهاصاته في محاولات دول إفريقية وكذلك آسيوية وفي أمريكا اللاتينية للبحث عن خيارات سياسية وتحالفات جديدة اكثر جدية ومنطقية من اجل ضمان بقاءها واستعادة سيادتها.
لعلّ ما جرى منذ عام وأكثر في دول مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو وبعض الدول الإفريقية يعطي مؤشرات جدية على بدايات النهوض للتخلص من ربقة الاستعمار الفرنسي هناك وهيمنته على مقدرات الكثير من دول القارة السوداء، كذلك هو الحال مع ما نتابعه من محاولات جادة لتوسيع تحالفات دول ال “بريكس”، بالإضافة إلى بدء التأسيس لتحالفات وتفاهمات اقتصادية وسياسية وحتى عسكرية، كتلك التي تقوم بها دول “اوبيك بلس” في محاولاتها للسيطرة على مستويات الانتاج وعدالته، والاتجاه شرقا بصورة أكثر منطقية، في محاولات حثيثة من دول المنطقة لخلق ذلك التوازن المفتقد، وليس غريباً أن نشهد مزيداً من التعاون الاقتصادي، بل قفزات جادة لخلق شراكات سياسية اقتصادية مهمة، وربما تحالفات حيوسياسية وحتى عسكرية اكثر وضوحا في المستقبل القريب.
ويكفي أن نشير هنا إلى أن توجّه دول مهمة في منطقتنا العربية المكوّنة من 22 دولة لتعزيز تحالفاتها الاقتصادية مع الصين باعتبارها ثاني أكبر قوة اقتصادية عالمية حتى الآن، حيث ارتفعت مبادلاتها التجارية من 13,7 مليار دولار في العام 2004 لتصل مع نهاية 2021 الى 330 مليار دولار، اضحى ماثلاً على الأرض وما فرضته من تغييرات جوهرية في لغة الخطاب السياسي في المجمل، وسبل وآليات التعاون اصبحت مقلقة بالفعل لدول مثل الولايات المتحدة الاميركية والعديد من الدول الغربية، رغم علمنا أن ذلك ربما يستغرق الكثير من الوقت ويخضع لموجات من الصعود والتراجع وربما الخمول تبعاً لحالة الأوضاع السياسية والاقتصادية حول العالم. وباعتقادي أن الفيصل هنا يكمن في رغبة دولنا وصنّاع القرار لدينا والشعوب بالدرجة الاساس، في التحلل من تلك الحالة المرهقة بالفعل والمتسمة بالجمود والمراوحة المزمنة والدوران في فلك المستعمر دون مبررات مقبولة.
أحد أهم تلك المؤشرات التي تجدر متابعتها هو ما أحدثه عدوان حكومة الكيان الصهيوني على غزّة والضفة، وما أحدثه طوفان الأقصى من زلزال سياسي وتحوّلات دراماتيكية في المزاج العالمي بشكل عام باتجاه ضرورة إنصاف الشعب الفلسطيني وقيام دولته المستقلة على ترابه، رغماً عن إرادة قادة دولة الكيان الغاصب الذين باتوا ولأول مرة منذ اكثر منذ 75 عاماً مطلوبين أمام محكمة الجنايات الدولية جراء جرائمهم، وما اوصله العدوان الصهيوني المدعوم أمريكياً وأوروبياً من اعتراف ثلاث دول أوروبية هي إسبانيا وإيرلندا والنرويج بحق الشعب الفلسطيني في قيام دولته المستقلة، وهي تحوّلات لا ينبغي الاستهانة بها أبداً، خاصة بعد موافقة اكثر من 134دولة عضو في الامم المتحدة على قيام الدولة الفلسطينية المستقلة.
تلك المؤشرات وغيرها يجب أن تشعرنا بالأمل في أن ما يحدث من تحوّلات كبرى حول العالم وعلى أكثر من صعيد، ربما تعيد لدولنا وشعوبنا شيئاً من كرامتها واستقلالها واستعادة مقدراتها وسيادتها، شريطة أن تبدي قيادات دولنا وصنّاع القرار لدينا المزيد من الإستقلالية، وتقرأ المستقبل بعقل منفتح يستحضر دروس الماضي كما يستوعب آفاق المستقبل وحاجتنا كشعوب ودول لمكانٍ لنا تحت الشمس.