الراهب

0
66

خلال مسيرتي الصحفية التقيتُ وجوها وزرتُ أمكنة واختبرتُ مواقف وعشتُ تجارب عديدة ومتنوعة، وهي وإن بدت قديمة وتنتمي لزمنها، إلا أنني أجدها اليوم جديرة بالتدوين والتوثيق لما تحمله من دلالات ومعانٍ ومفارقات، وسوف أستعرض تباعاً عددا منها في هذه الزاوية .

قبل عدة أعوام التقيت مدرساً للغة الإنجليزية يعمل في إحدى وزرات الدولة، هذا الرجل البريطاني المولود في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي لأم المانية وأب بريطاني، وجد نفسه وحيداً وفقيراً ولا يجد لقمة يومه إبان الحرب العالمية الثانية، أخذته امه الى كنيسة قريبة كي يعتاش منها  ويدرس ويعمل، اختار الرهبنة مُكرهاً ثم اصبحت الملاذ الوحيد، وانعكست على نمط حياته كلها لاحقاً، وفي  الكنيسة تحصل على شهادة الدكتوراه في علم الأديان المقارنة، بعدها ترك العمل الكنسي وقرر الرحيل عن بلده، سافر الى الهند وتركيا، ثم استقرّ به الحال في البحرين. عاش في بيته وحيداً مع عدد من القطط  التي رعاها وأنفق عليها تغذية ورعاية وتطبيباً، ظلّ مضرباً عن الزواج، وإذا صادف والتقى امرأة أعجبت به، أو أعجب بها قال جملته المعهودة إنها زوجة مناسبة لي تماماً لكن شكراً جزيلاً، والشكر هنا يعني أن الأمر محسوم بالنسبة لي، لا زواج ولا أولاد ولا ارتباطات ولا مسؤوليات شاقة تكبد المرء الأعباء التي لا لزوم لها. إنها اشياء جيدة ولكن شكراً جزيلاً، يقولها حول تغيير سيارته أو أثاث بيته أو أي شي على هذه الشاكلة.

وقد ساعدته جنسيته وكفاءته في التدريس وصحته وغذاءه المضبوط والمدروس وشبكة علاقاته في مجال التعليم في الحصول على سنوات عمل إضافية، حين استنفذها جميعها وولج الخامسة والسبعين صار يعطي الدروس في بيته، لم يدخل المشفى إلا نادرا لكنه أجرى عدة عمليات تجميلية وشدّاً لوجهه مضطراً كي يخفي عمق التجاعيد التي كست وجهه، ولكي يكون مقبولاً للتدريس على حد قوله، “إن كفاءتي وعقلي ونفسيتي أفضل حالاً من وجهي”. وفي كل عام كان يراجع وصيته مع اصدقائه ويؤكد لهم أن سائقه سيبلغ الجميع من الاصدقاء بأمر الوفاة كي يتخذوا اللازم.

 لماذا اخترت هذا القسّ الطاعن في السن  لأفرد له مقالاً؟،  لقد وجدت أنّ كل خياراته في الحياة بدت صائبة ومطابقة ومنسجمة مع أهدافه وعمره ووضعه الصحي وامكاناته. هذا الرجل العميق الثقافة عاش وحيداً وسعيداً وخفيفاً وممتناً للعمر الذي بلغه، وكان على جانبٍ كبير من الاستقلالية والانضباط والترتيب والنظافة، وكان الحديث معه ممتعاً وشيّقاً، وينطوي على تجارب وخبرات حياتية صعبة وجديرة بالتأمل، وقد لازمه الحسّ الفكاهي والنظرة المتفائلة للدنيا في كل مرحلة زمنية، وكان يجمع الاصدقاء حوله  في مناسبات عدة كالكريسماس والسنة الجديدة ويوم مولده.

الحياة حين نتتأملها في أي مرحلة زمنية من العمر، تبدو كرحلةٍ قابلة لكل الاحتمالات غير المتوقعة، حتى وإن اعتقد المرء أنه مستعد لكل صروفها. لقد اعتقد القسّ المضرب عن الزواج أنه سيقضي عمره في البحرين، وسيدفن فيها عازبا وسينال اصدقاءه المقربين جزءاً من تركته بعد رحيله، لكن صدر الأمر بانهاء عقد عمله لتجازوه السن القانونية ولم تفلح الوساطات في استبقاءه فترة أطول. مع ذلك كان مستعداً للتغيير، وهكذا حزم حقائبه ووزع حاجياته وقططه وأثاث بيته المتواضع، اشترى بيتاً في الهند وتزوج أرملة على الورق فقط، لا يقيم معها ولا تقيم معه، إنما لشرعنة ملكيته للبيت.

ولأنه معلم للغة الإنجليزية فقد ترك أثراً طيباً لدى تلامذته وأصدقاءه،  ولا يزال الكثير منهم يستعيد عباراته اللطيفة وحكاياته  الفكاهية. كان يقيٌم البشر حوله تبعاً لمعرفتهم بالانجليزية، فكانت لديه جملة واحدة مألوفة حول أي شخص يلتقيه، إذا أُعجب بشخص قال عنه: “يتحدث الانجليزية بطلاقة”، وإذا لم يعجبه، زمّ شفتيه وقطب وجهه وعبر باستياء عن لغته الانجليزية الضعيفة على حد قوله.

قال إن نمط حياته الصحي ومزاجه الرائق سيؤهله للعيش مديداً وهكذا كان. ترك البحرين قبل سنوات. احتفل بعيد ميلاد الثالث والتسعين قبل شهر، ولا يزال الاصدقاء يتلقون منه بطاقات الأعياد السنوية إلكترونيا. كان يردد دوما: “إن كل يوم نعيشه بعد عمر الستين هو هديّة من السماء وجدير بمن تجاوزوا الستين أن يثَمنوا ويحتفلوا بهذه الأيام المهداة لهم بلا مقابل.