المقاومةُ بالحُسن

0
19

الشِعرُ فن، عاطفة، شعور، استجداء محبوب، تحدٍ، مقاومة. والشعر من الكلام أحسنه وأجوده، فهو موزون مقفا ومفرداته منتقاة بعناية. موهبة تمكن الشاعرَ من أن يخرج ما في داخله من شعور وعاطفة الى الخارج على شكل حروف وكلمات، فالشاعر فنان يستطيع أن يحوّل إحساسه الى لغة ونشيد شاعري. الشعراء مرهفوا الحس بالِغوا الحساسية يتأثرون بما يحصل حولهم من أحداث وأحوال، يلتقطون الأفكار والصور العديدة المتراصة في العالم الخارجي ثم يحولونها الى لوحة فنية جميلة يمكن أن تستشف منها معنىً وفكرة، الشاعر بفنه رسامٌ يجيد الرسم بالكلمات التي تعكس مجموع الخبرات والتجارب الحياتية.

لايخفى أن نجد هي أهم مواطن الشعر وكثيراً ما تغنا بها الشعراء، مع هذا لا يمكننا الحديث عن الشعر العربي دون أن نمر على العراق بغدادها وبصرتها، فالشِعر هناك حديث يُسمع ونشيد يُلقى، في العراق حتى الطفل شاعر أو مشروع شاعر كامنٍ ينتظر لحظة التجلي لينطق بأبلغ الكلام وأكثره نَظماً. والعراق طويلُ الليل مثلما قال المتنبي، بما مر به من حروب وآلام ومصاعب، زمن طويل وهو يعاني من جور الزمان وأهله منذ اجتياح المغول لبغداد 1258م حتى الغزو الأمريكي 2003 وما تلاه من أحداث من اتهاكات الأمريكيين ومن ممارسات العراقيون ضد أنفسهم، ولكن للعراق انتصاراته أيضاً، ومقاومته، والشِعر مقاومة، مقاومة بالحُسن، ضد بشاعة الظلم وحِيَله وأدواته، كلما زاد الألم والإصرار ينطق العراق شِعراً، وكما قال درويش: “إن الشِعر يولد في العراق **فكن عراقياً لتصبحَ شاعراً.

عندما جاء الصهاينة الى فلسطين كانت البلد عامرةً من شمالها الى جنوبها ومن نهرها الى بحرها مروراً بالسهل والجبل، وكانت أم البدايات تنطق شعراً بلغة الضاد وهي تقاوم كل غزاتها، فإما حياة تسر الصديق وإما مماتاً يغيض العِدا، قاومت الظلم العثماني والإنتداب البريطاني ثم ها هي تقاوم أثقل الناس ظلاً، الصهاينة الغزاة ومشروعهم. يقول سميح القاسم في واحدة من قصائده الشهيرة: “ربما أخمِدُ عرياناً وجائع، ياعدوّ الشمس لكن  سأقاوم، والى آخر نبض في عروقي سأقاوم”… فلسطين رغم كل الألم والإبادة إلا أن شعبها حيٌّ وباقٍ ينتج المقاومين والشعراء معاً دون توقف، أو كما يقول تميم البرغوثي في قصيدته الجميلة في القدس: “في القدس لو صافحتَ شيخاً أو لمستَ بنايةً، لوجدتَ منقوشاً بكفكَ نصَّ قصيدةٍ، يا ابن الكرام، أو اثنتين”.

هل ثمة ملازمة بين تحدي الألم/ الظلم وإنتاج الشعر؟ ربما نعم، فالشعر محاولة للبوح بمكنونات النفس تحدٍ للكبْت، الشعر في أصله تحدٍ وإشهار للجمال في مقابل القبح، فكلما ازداد القبح تجلى الجمال في الشعرليفضح القبح ويعرّي زيفه، الجمال حقيقة القبح زيف. الشعرُ إذن مقاومةٌ بالحُسن، الحسن جلي والقبح خفي وإن ظهر القبح لايدوم حتى يتخفى أويختفي. القبح زائل لأنه زيف والجمال باقٍ لأنه أصل، وبقاء الجمال مقاومة ضد القبح، قالوا إن الجمال لايُعرف إلا إذا شابه قُبح فهذا نقيض ذاك به يُعرف ويتعين هكذا تستمر مقاومة القبح معنىً وفناً وشِعراً.

يقول تميم البرغوثي :”نحن نرد  القبح بالجمال، وهِندام جُملتنا ردٌّ على شعَثِ خطاب القبيحين من أهل زماننا، وكل جمالٍ مقاومة، جمال ابتسامة امرأةٍ تعرف أن نظرتها إلينا قوة لنا فتمنحنا منها بعضها، كخبز المسيح في العرس الجليلي كلما أَعطى منه ازداد، جمال اللحن يسمح للحُزن أن يُغني، جمال القصيدة تجعل العالمَ أوضح كمن يضبط العدسة فجأة، وجمال اللوحة تعدل على رأي الشمس. إنك متى رسمت لوحةً أو كتبت قصيدةً فقد غيرت العالم، لم تغيره تماماً لكنك غيرته، لقد صار أجملَ بمقدار لوحة، وصار مستحقاً أن نقاتلَ من أجله أكثر، ولو بمقدار لوحة، جمال اُعيد ولو بمقدارلوحةٍ أو بيتِ شِعرٍ أو وقفة عِزٍ لأعزل أمام دبابةٍ تخافه ولايخافها، وأعلم أن الجمال أطولُ عمراً من القبح…نعم للكتابة هيبة، لأنها تجرّؤٌ على الموت، واختلاسة لقليلٍ من الخلود، لهذا تذكر كلما واجهت ظلماً أو قبحاً، أن تدافع عن نفسكَ بأن تخترع جمالاً ما، وخذ صورةً لذلك الجمال، وثقه وثبّته، ودافع عنه، فإن كلَ حُسنٍ مقاومة.”