الورّاق والعلّامة ابن النفيس

0
87

رواية غنية بالأحداث، تأخذنا إلى عبق التاريخ القديم للعلم والعلماء رغم الظروف الصعبة التي عاشوها وفي ظل الحروب الخارجية والنزاعات الداخلية على الحكم بين الأمراء، الحروب الصليبية وغزو المغول وسقوط بغداد. وعلى طريقته الخاصة في السرد القصصي البديع وبأسلوبه السلس كما هو في روايته فردقان اعتقال الشيخ الرئيس والمقصود ابن سينا، يتناول يوسف زيدان في روايته هذه “ابن النفيس”، العالم والطبيب واسمه (علي بن أبي الحرم القرشي) والمولود في السنة السابعة بعد الستمائة للهجرة النبويّة.

هذه الرواية عمل مبدع وممتع لطريقة سرد مختلف الأحداث التاريخية التي رافقت وأحاطت بصاحب السيرة العلامة العلاء الحكيم ابن النفيس، فرسم يوسف زيدان بريشته رواية مهمة للمهتمين بالتاريخ والحروب التي دارت في تلك الفترة، ولما له من سعة إطلاع وفهم في التاريخ والفلسفة والفكر أتحفنا بالمعلومات عما جرى فيها من أحداث وعن تلك النزاعات العديدة التي تنشب بين القادة على الحكم. فقد أخذ ابن النفيس علومه من المشايخ الدمشقيين وبالخصوص شيخ الطب في الديار الشامية (رضيُّ الدين بن حيدرة الرحبي والآخر هو شيخ الصوفية (محي الدين بن عربي) والملقب عند مريديه بالشيخ الأكبر، وصاحب كتاب (الفتوحات المكية)، والذي تتلمذ على يديه أيضاً صدر الدين القونوي وجلال الدين بن بهاء الدين الملقب بمولانا الرومي، وكان لأبيات بن عربي الشعرية عن (دين الحب) الذي يتسع لكل العقائد أثر في ذلك الوقت وما زالت تلك الأبيات خالدة في ضمير محبي التسامح بين الأديان:  “لقد صار قلبي قابلا كل صورة/ فمرعى لغزلان ودير لرهبان/  وبيت لأوثان وكعبة طائف/ وألواح توراة ومصحف قرأن/ أدين بدين الحب أنى توجهت/ ركائبه فالحب ديني وإيماني”.

يصف زيدان ابن النفيس بأنه “شيخُ طويل القامة، نحيل البدن، واسع العينين، أسيل الخدين، دقيق الأصابع. يرتدي ثوباً من الكتّان الفاخر، وعلى رأسه عمامةُ خفيفة، وهو من صفوة حكماء هذا الزمان، ومن نبلاء أعلام العلماء، وهو الطبيب الخاص للسلطان الظاهر بيبرس، وهو أعلم أهل الأرض بالطب، وفي العلاج”. أعظم من ابن سينا، ومشهور عنه الرفق بالفقراء، والزهد في المتاع الدنيوي والتوغل في دروب مختلف العلوم والمعارف. فقد كانت له الكثير من المؤلفات، كرسالته المبهرة للأذهان (مقٌالة في النبض)، (رسالة الأعضاء)، (المهذب في الكحل المجرب)، (الشامل)، (شروح على الأجزاء المتعلقة بالتشريح في كتاب القانون في الطب لأبن سينا)، (رسالة في مواليد الثلاثة)، (فاضل بن ناطق) أو (الرسالة الكاملية) وهي قصة رمزية على نسق ما كتبه ابن سينا في قصته الرمزية أيضاً  حيّ بن يقظان، (طريق الفصاحة) في مجلدين، المختصر في علم أصول الحديث)، (رسالة في أوجاع الأطفال) وشرح كتاب حنين بن إسحاق (المسائل في العين)، إلى جانب الشروحات لكتب ابقراط وجالينوس وابن سينا إضافة للرسائل المختصرة مثل (رسالة في النبض) و (رسالة في الحرارة الغريزية والحرارة الكامنة في الأجسام الحية) ومطولات طبية مثل كتاب (الموجز في الطب) و(الشامل في الطب) في ثلاثمائة مجلد الذي لم يبيض منها الا الثمانين مجلداً، (المختار في الأغذية)، شرح كتاب أبقراط (المرض الوافد) أي الوباء.

وكان يقول عن نفسه “أعرّج في طريق عودتي على سوق (الورّاقين) فأستأجر منهم الكتب لقراءتها، بسعر زهيد …التهمتُ أيامها كل ما وقع بيدي من الكتب، في شتى المعارف والفنون، فلم أعد مقتصراً في شغفي بالمعارف على المعارف الشرعية”. كان قارئاً مطلعاً على مختلف المستجدات من العلوم وبالخصوص الطبية والدراسات التاريخية، واعتاد البقاء في منزله لتحضير ما يشغله من جديد في العلم والمعالجات الطبية، كما أنه استكمل في دمشق دروس الطب على يد الحكيم عمران بن صدقة الإسرائيلي وقرأ عليه كتب أبقراط وجالينوس، وكذلك الحكيم رضي الدين الرحبي فتعلم منه أسرار الكحالة، وفنون طب العيون، إضافة إلى ذلك دراسته إلى مؤلفات العبقري أبي علي الحسين بن سينا، ولم ينقطع خلال ذلك عن درس علوم اللغة والدين فقرأ كتاب الأنموذج في النحو ومتون الفقه الشافعي.

يجتمع في بيت الحكيم ابن النفيس خيرة الحكماء ومن مختلف المذاهب والأديان يجمعهم العلم من كل ملّة، كالمسلم والمسيحي واليهودي، فكان يقول ابن النفيس عن ذلك “قد أكرمني بهم المولى عز وجل، ويعلم الله أنني ما انتبهت يوماً إلى غير نباهتهم وحرصهم على الاشتغال بالعلم ولم يشغلني قط هذا التفاوت في أصولهم أو دياناتهم”، وكان الحكيم ابن النفيس مهتماً أيضاً بالموسيقى فكان يقول  “إن الموسيقى من أسباب نجاتي من الموت، وقد سبق لي التأليف في علم الموسيقى، ومن مصنفاتي المبكرة عدةُ رسائل وكتب موسيقية”، وهو القائل: “لابد للطبيب من معرفة صناعة الموسيقى وإيقاعات الألحان، لارتباطها بالنبض الدال على حال البدن”. كان ابن النفيس قادراً على معرفة ما يعانيه المريض من مظهره، ولهذا السبب أيضاً ذاع صيته وأصبح معروفًا لدى عليّة القوم كما هو عند العامّة، ولكل ذلك فإن تلاميذه القدماء ظلّوا يستشيرونه حتى بعد أن صاروا راسخين في المهنة لمهارته الاستثنائية.

المتحدث أو الراوي في هذه الرواية هو أحد الوراّقين المشهورين والمشهود لهم بجودة الخط ودقة النقل وفهم الخطوط ومحتوى المكتوب وهو واحد منِ منٓ استعان بهم العلامة علاء الدين علي والمكنى بابن النفيس أو الحكيم ابن النفيس رئيس أطباء مصر والشام، في نسخ مؤلفاته العديدة وسيرته الذاتية. وكان ذلك الورّاق، ولشهرته الفائقة وجودة نسخه للمصنفات ينسخ معظم كتب المؤلفين العظام في ذلك الزمان، فقد استكمل نسخ كتاب (الزمردة) لأبي الحسن أحمد (ابن الراوندي) المُلقب بالمُلحد وكان في ذلك مخاطرة جسيمة كما حصل مع ظُبط من نسخ رسالة أبي بكر الرازي (في القول بقدم العالم) وما حصل أيضا من نسخ كتاب محمد الكلُليني (الكافي في فقه الشيعة الإمامية). واستمرت الصحبة التي بين الورّاق نصري بن قاسم بن عبد المجيد الجعفري الشريف والمعروف بسديد وابن النفيس أربعين عاماً، مما أسهم في نسخ تلك المؤلفات لسهولة إلمام الورّاق بالخط الذي يكتب به ابن النفيس، على الرغم من فارق السنّ بينهما فابن النفيس في الثمانين ونصري في الأربعين من العمر.  

سيرة العلامة ابن النفيس حافلة بالعطاء في خدمة العلم والوطن، أفنى حياته وأوقفها على خدمة البشرية بعلمه، الاّ إنه وفي الشهر الأخير من حياته، اشتدّ عليه المرض وهو في سن متقدمة وهو في العقد الثامن من عمره، فأسلم الروح في ساعة السحر من يوم الجمعة الموافق للحادي والعشرين من شهر ذي القعدة، عام سبعة وثمانين وستمائة.