السنوات تمضي والأيام تكرّ، والرفاق يرحلون واحداً تلو الآخر وليس باليد حيلة لوقف هذه الخسارات إلا بكتمان صرخات تصل حواف الحناجر ونظرات نتبادلها بأسى على من رحلوا.
أقول ذلك لنفسي وقلبي يرتعش بالحزن بعد أن ودعنا قبل أشهر ثلاثة من الرفاق عبدعلي الشويخ وعبد العزيز آل عباس ومحمود العوضي، لنفجع برحيل السيد مصطفى في تلك الليلة، ليلة الخميس الموافق للثاني عشر من يونيو 2024.
أما آن للموت أن يستريح؟
كم نـحن محزونون ومحبطون وروائح الموت تصعد في أعماقنا لتحيلنا إلى أرواح فاقدة للحياة بفعل هذه الفقدانات المتتالية، ولا نفيق إلا على وقع موت آخر لرفيق، كوابيس تُهاجمنا بعد كل مشهد وداع لأحد منهم ليقيم الحزن ويرسو في أعماق النفوس المفجوعة لدرجة أن هذا الوضع أصبح آلة لإنتاج الألم، ألم رهيب أشبه بخنجر ينغرس في الصدر.
يبدو أننا منذورون لهذا القدر، الموت السريع ودونما استراحة. أفكار وتصوّرات مؤلمة ومفزعة، ولكن هذا هو قانون الحياة ونظام الكون وسر الخليقة والوجود. وإذا ما تأملنا ملياًّ سنجد بأنّ كل منا يفقد شيئاً عزيزاً عليه، فرصاً ضاعت، إمكانيات، مشاعر لا يمكننا استعادتها أبداً، ولكن يبقى الموت هو أعظم ما يمكن فقده في هذه الحياة، فالموت هو المحطة الأخيرة في سيرورة قطار الزمن مما يُوّلد حالة من الحزن والكآبة والألم لدى محبي الفقيد من رفاق وأصدقاء ومعارف وهذا ما يحصل دوماً وأبداً.
قرب منزلنا في قرية الديه، كنت أستعيد من الأفق البعيد للذاكرة شظايا من ذلك الزمن المفقود قبل أربعين عاماً صورة سيد مصطفى وهو يُقرؤني المفتاح السري، ويهجس بالجملة الدالة على بدء العلاقة بالتنظيم بعد عودتنا إلى الوطن، فكان لي شرف التعرف به منذ تلك اللحظة ومنذ ذلك اليوم الذي قدم وجدت فيه مناضلاً ذا أخلاق رفاقية عالية، رجل ملئ بالنور والحياة وقد وقال كلمته التي ما زالت تطنّ في أذني: “عندما نمتلك قدرة التحليل نمتلك قدرة الكشف”.
عندما يصادف المرء أناساً كأبي وليد، شهم ونبيل يرتفع بهم، ويشعر أنّ الحياة ما تزال ببعض الخير. وفي الذاكرة تفاصيل تمضي. صور وأطياف للحظات عبرت لا تعود كابتسامته العابرة كومضة بعيدة من ماضٍ بعيد مبهم أتى محيياً في ذلك المساء من عام 1984، كأنّ كل شيء يتراقص كحلم في تلك الأيام العصيبة، أيام الشدّة. إنه الزمن يلف ويدور، لأشدّ ما أشعر بالمرارة الآن وأنا أحاول استحضار صورته الآن على شاشة ذاكرتي.
من أين أتى هذا الماضي المغرق في القدم والنسيان؟ ولماذا أتى الآن؟
أبا وليد هذا الإنسان المفعم بالقوّة والطاقة والقدرة على الابتسام في أحلك الظروف الصحية. رجل عملي، متواضع وكريم، روح مثابرة، رحل وهو يبلغ سلامه من المستشفى وعيناه تطوفان بآخر أنوارهما في فضاء الغرفة لكلّ معارفه، وكأنّما يودعهم بتلك الضحكة المعبرة وبذلك التسامح والتسامي على الجراح، فقد كان صادقاً متوازناً، راسخاً كالصخر، وفيّاً لمبادئه، كريماً سخياً في عطاءاته قادراً على تحمّل الأشياء بهدوء وبسبب هذه الخصال أصبح من الناس القلائل الذين يملأون القلب والعين.
إنسان مشرق يفيض بالحبور ذو شخصية متماسكة دوماً، شجاع، نقي كنقاء الماس وصلابة حجر الغرانيت، خاض حروبه مع المرض بصلابة وجلد، جاهد حتى الرمق الأخير فارداً جناحيه فوق حقول الألم بصلابته ونبله، ناضل بما تبقى من قوة الروح والجسد الجرانيتي الذي تفتت بفعل المرض فقد كان المرض أقوى، كما أن المرض سلطان مستبد وللإنسان طاقة محدودة.
في ذلك الزمن الصعب والفقر في القرى يمشي ملكاً بدأ أبو وليد مشواره الصعب في ترتيب حياته بعنفوان الرجال فاختار الطريق العسير، طريق الدفاع عن مصالح الفقراء والكادحين فأخذ ضريبته من هذا النضال، السجن والتعذيب كغيره من المناضلين وكان في سيرة شقيقه سيد إبراهيم مثله الأعلى والأسمى والأمضى في النضال.
لم نلتق بعدها لأسباب أمنية، ليصبح بعدها من ضمن المعتقلين في دفعة عام 1986، هم تسعة عشر رفيقاً كان من بينهم الشهيد هاشم العلوي ليبقي مصطفى في السجن من 1 يوليو 1986 ولم يطلق سراحه إلا في 22 أبريل من عام 1990.
وعندما كنا نلتقيه قبل رحيله كان يتحدث بحيوية رجل صارع الحياة ولم يخف العواقب فنجده قويّاً ونـحسّ بأن الأمل في النجاة من المرض قريباً وبأنه قاب قوسين أو أدنى من التعافي، بل أكثر من ذلك استعاد كل ثقته في الانتصار على الداء، لكن الإنسان يقع أخيراً. الجسد يخون الإنسان في النهاية.
رحل عن دنيانا سيد مصطفى، خسارة قاسية. في النهاية لا نملك قدراً آخر إلا قدر الحياة على قسوته ومع ذلك بقت سيرته وخصاله الجميلة شاخصة، نتذكرها كإنسان عصامي قوي الشكيمة والبأس، قدم لوطنه أجمل إيام شبابه مدافعاً مقداماً عن أفكاره في سبيل وطن لا يرجف فيه الأمل ومن أجل وطن حر وشعب سعيد، فعلى الرغم من إننا كلنا ننهزم أمام الموت لكن لا شيء أفظع من الهزيمة أمام الحياة، وهذا ما يجب أن نكون عليه، وكأنما هي من وصايا من رحلوا عنا ومن ضمنهم فقيدنا أبي وليد.
لروحه السكينة والهدوء ولذكراه الخلود ولرفيقة دربه حياة الموسوي ولأبنائه لينا ووليد وإياد وهشام الصبر الجميل.