القانون وحالة المجتمع في الدول العربية

0
19

إحدى كبرى المشكلات بعض النظم التشريعية العربية، تتمثل في انهيار القوانين التي تنظم الهندسة الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، ومن ثم تؤدي إلى تضخم الآلة التشريعية، وفقدانها للتوازن بين المصالح الاجتماعية المتعارضة والمتصارعة، في كل مجتمع من المجتمعات.

في مقال له نَشره مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، يقول الكاتب والأكاديمي نبيل عبد الفتاح، إن الأخطر يكمن في الميل لحل مشكلات سياسات الحكم من خلال اللجوء إلى النزعة الجبائية، أي من خلال فرض الضرائب غير المباشرة على السلع والخدمات والتوسع المفرط فيها، وذلك لتمويل العجز في الميزانية.

وبرأيه، إن هذا النمط من الضرائب، يوصف دائمًا، بأنه يُسيّد اللاعدالة الضريبية، لأنها تفرض على جميع المواطنين، أياً كانت انتماءاتهم الطبقية، على المعسورين وراء خطوط الفقر، ومن هم تحت هذا الخط، والفقراء، والطبقة الوسطى، والأثرياء! بينما العدالة الضريبية تقتضي رفع معدلات ونسب الضرائب على الفئات الثرية ورجال الأعمال، الذين يحققون أرباحًا ضخمة من أعمالهم، بل ويحصلون على تسهيلات ومزايا كبرى من أجل تحريك الاقتصاد القومي، وتقليل نسب البطالة، بإتاحة فرص جديدة للعمل. 

هذه النظرة الاقتصادية الأحادية تتسم بقصر النظر السياسية، لأن عدم العدالة الضريبية، يؤدي إلى ارتفاع معدلات الغضب الاجتماعي، وتراكمه، وهو ما يؤثر سلبًا على أي نظام سياسي، ويؤدي إلى تآكلها بمضي الوقت.

تميل بعض الدول العربية المعسورة، وطبقاتها السياسية، وتشريعاتها إلى نظام الجباية من خلال التوسع في نطاق ومساحات فرض الضرائب المباشرة واللا مباشرة، وإلى ارتفاع الرسوم التي تفرضها الوزارات المختلفة على المواطنين في مقابل الخدمات التي تقدم لهم، للحصول على الشهادات، أو التراخيص، أو توثيق بعض الأوراق الرسمية.. إلخ! هذه النزعة الجبائية تؤثر على صورة الدولة، والنظام والطبقات السياسية العربية الحاكمة، وتوصف بأنها دولة جبائية، ويعيد إلى الذاكرة الجماعية العربية، والإدراك الجمعي منطق الجباية المملوكي، وهو ما يؤدي إلى تكريس الوعي الاجتماعي ما قبل الحديث عن الحكم المملوكي، ونظام الولايات العثمانية، في أثناء الكولونيالية للعالم العربي.

هذا المنطق ما قبل بناء الدولة الحديثة حيث النظام الضريبي، إحدى علامات التحديث المؤسسي للدولة، وعلاقاتها بمواطنيها من كافة الطبقات الاجتماعية. يبدو نظام الجباية خطرًا، لأنه يؤدي إلى تزايد مساحات الغضب، وإلى تزايد فجوات الثقة بين المواطنين، وبين الأنظمة السياسية الحاكمة، وبين موظفي الدولة، ووزاراتها، حيث وقر في ذهنية ووعي المواطنين أن الزيادات في الرسوم المقررة على الخدمات، يتم تحصيلها لزيادة مكافآت الموظفين، خاصة أن ذلك لا يحول دون طلب بعضهم الرشا، مما يزيد من معدلات هذا الغضب. تميل السلطات التشريعية إلى تمرير القوانين المعدلة للنظام الجنائي والعقابي، من خلال الإفراط في سياسة تغليظ العقاب، تحت وهم أن رفع منسوب التجريم، والعقاب على سلوكيات المعاقب عليها، سيؤدي إلى منع هذه السلوكيات أو الحد منها، أو تقليل معدلات ارتكابها.

من المثير أن نتائج سياسة تغليظ العقاب المبالغ فيها لم تؤد إلى تحقيق النتائج المرجوة منها عربيًا، بل إنها تدفع إلى ارتفاع منسوب الجرائم الكبرى، مثل تهريب المواد المخدرة، وبيعها، وحيازتها، وتعاطيها.

ويعني ذلك، رغم العقاب وغلظته، تزايد هذه الجرائم. هذا الدرس الواقعي لسياسة تغليظ العقاب يشير إلى ضرورة التكامل بين السياسة التشريعية والسياسات الاجتماعية، والإدارية في جهاز الدولة، والنظر البحثي في البحوث الاجتماعية والأمنية حول أسباب هذا السلوك الإجرامي، وتصاعده في المجتمع ومواجهة مصادر إنتاج السلوك الجانح.

لا يمكن للسلطات التشريعية العربية أن تواجه المشكلات الاجتماعية والسياسية دون مساندة وتكامل مع السياسات الاجتماعية الأخرى، ودون دراسات مسبقة داعمة لمشروعات القوانين المقدمة من الحكومات المختلفة. من ناحية أخرى، يتطلب درس القوانين من المنظورات القانونية، والسياسية، والاجتماعية. فعالية القانون، تتحقق في تعبيرها عن التوازن بين المصالح الاجتماعية، والسياسية المتصارعة، والمتنافسة في المجتمع.

لا يتعين أن تتزايد القوانين المُقيّدة للحريات العامة والخاصة، لأن ذلك يؤثر على صورة الدولة والنظام السياسي في العالم الأكثر تطورًا، وعلى مواقف المنظمات الدولية التمويلية لاقتصاد هذا البلد أو ذاك، وأيضا المواقف السلبية من الإدارات السياسية الغربية، وأثر ذلك على علاقاتها بالدولة.

من ناحية أخرى تسهم المنظمات الدولية الحقوقية في بناء صور سلبية عن الدولة ونظامها السياسي المقيد للحريات العامة. حريات الرأي والتعبير، والبحث العلمي، والتدين والاعتقاد بدور بارز وحيوي في إبراز الشرعية السياسية للنظام والطبقات السياسية الحاكمة، وتسهم في تخفيض العنف والغضب السياسي والاجتماعي، وتدفع نحو إبداعات للعقل في كل مجتمع عربي، وإلى ترشيد وعقلنة القرارات السياسية، وضبط التوترات الاجتماعية والسياسية، وحلها بطرق سليمة فعالة.

About the author

Author profile

كاتب بحريني وعضو التقدمي