“ترميم الذاكرة” .. سيرة ملهمة

0
19

في إحدى ليالي شهر آيار/ مايو حصل لنا الشرف أنا وأصدقائي في الإلتقاء بالكاتب البحريني البارز الدكتور حسن مدن في أحد المقاهي القريبة من العاصمة المنامة. كان اللقاء ممتعًا ومضى سريعًا بسبب الحوارات المشوقة والمتنوعة التي دارت بيننا قرابة الساعتين ونصف. لفت انتباهي تركيز أصدقائي في طرحهم الأسئلة على ضيفنا حول كتابه “ترميم الذاكرة” الصادر، في طبعتع الرابعة مؤخراً، عن منشورات تكوين”.

وبسسب نفاد الكتاب من جميع المكتبات في البحرين أهداني الأستاذ مدن نسخة من كتابه الذي لم يبالغ أصدقائي ومختلف القراء في الإشادة بجميع تفاصيله. على الفور بعد استلامي للكتاب باشرتُ في قراءته، فوجدته كالفلم المثير الذي تحرص بأن لا تفوتك أي لقطة أو مشهد منه.

من لم يقرأ “ترميم الذاكرة” سيجهل السيرة الذاتية لحسن مدن، وهي السيرة الحافلة بالنضال، بالبعد عن الأهل والوطن في المنفى لأكثر من عقدين من الزمان.

لذاكرة المكان حضورهِا اللافت في سيرة مدن، حيثُ تنقل في منفاه الإجباري بين مدن عديدة، إذ فرضت عليه الظروف القاهرة أن يُغادر بعض المدن التي أحبّها وتعلّق بها. يقول مدن عن المكان: “إننا لا نتذكره ولا نكتب عنه إلا عندما نكون بعيدين عنه. سيرة المكان لا تُنجز ولا تُكتب إلا في مكان خارجه. إنك لن تستطيع أن تصف المكان وأنت فيه، لأنك إذ تكون داخله لا تكاد تلحظ تفاصيله ودقائقه التي تأتلف معها وتلمسها كل ساعة أو تمر عليها كل يوم.”

ينشأ التعلق بالمكان غالبًا من خلال الارتباط العاطفي والذكريات المرابطة بمكانٍ ما. قد يكون ذلك المكان البيت الذي نشأنا فيه، أو المدينة التي ولدنا وترعرنا بها. لذلك ارتبط حسن مدن بالقاهرة لأنّها المحطة الأولى له في الغربة، وهي المدينة التي أحبّ طرقاتها ومكتباتها ومقاهيها وناسها الطيبين. من حُبه للقاهرة كان يخشى  أن يُجبر على تركها، وهذا ما حدث فعلًا في العام 1976، فعرف في حينها الفقد الأول للأمكنة، ومعنى أن يُقتلع الإنسان من مكان يحبه ويألفه وتشدّه أقوى الوشائج.

في أوج لحظات قراءتي لسيرة حسن مدن الحافلة بالعطاء والتضحيات، وجدت نفسي أتوقف أمام العديد من المواقف والأحداث المؤثرة، التي تُجبرك على الابتسامة والغضب في ذات الوقت. فمثلًا عندما تقرر اعتقاله وترحيله من القاهرة، يقول مدن: “أخرج العسكري قيدًا حديديًا من جيبه، أوثق طرفًا منه في يده وأوثق الطرف الآخر في يدي، وصعدنا هكذا معًا إلى باص المواصلات العامة المتوجه إلى منطقة القلعة. كانت أعين النساء والرجال من ركاب الباص متوجهة نحوي، أشفقت على حالي من صرامة تلك النظرات، شعرتُ بها كأنها سياط تنهال على جسدي”.

محطته الثانية في عوالم المنفى الطويلة كانت اتجاه بغداد في العام 1976 حيث كانت يومذاك تحفل بحياة سياسية وثقافية نشيطة. وكان الوسط الطلابي البحريني في الجامعات العراقية يعكس ما في الحركة الوطنية البحرينية من أطياف وتنوعات.

مع تعذر عودته إلى القاهرة، ستحمل الاقدار وظروف العمل الحزبي مدن إلى بيروت كمحطة جديدة في منفاه الإجباري. في حديثهِ عن بيروت وسرد بعض ذكرياته وقصصه فيها، كارتباطه بشارع الحمرا حيث الأضواء ودور السينما والمقاهي والمحلات وكل كتب الدنيا المصفوفة على الأرصفة. جعلني استرجع بحرارة ذكرياتي في سنوات دراستي في جامعة بيروت ومدى تعلقي وحبي للبنان ولبيروت التي بقت صامدة رغم ما فعلته بها الصراعات والحروب.

في العام 1982 تمّ اجتياح بيروت من قبل جيوش الكيان الصهيوني، الأمر الذي أرغم مدن على اختيار محطة جديدة في رحلته الطويلة مع المنافي. ما يعتبره المنفي والبعيد عن وطنه أمرًا مؤقتًا يصبح دائمًا. يكون الأمل قويًا في العودة إلى الوطن في السنوات الأولى للمنفى، غير أن هذا الأمل يتوارى ليُفسح المجال أمام الخضوع للمنفى والتأقلم معه. هذه المرة ستكون المحطة دمشق المدينة العريقة في تاريخها، والمعروفة بحيويتها الثقافية والفكرية. “يمكن للمكان أن يكون صديقًا طيبًا، لذا فإن شعورك بفقده يضاهي شعور فقد الصديق الطيب”. هذا ما كان يشعر بهِ حسن مدن في معاناته من التنقل المستمر بين المدن، ومن سكن إلى سكن آخر.

بعد خمس سنوات من الإقامة في دمشق، بدت الحياة في عيني حسن مدن رتيبة ومكررة، فوجه طموحه نحو مواصلة دراسته العليا في مدينة موسكو سنة 1990. وفي هذه المرحلة التاريخية برزت “البيروسترويكا” التي كانت تعمل ببطء لإسقاط الاتحاد السوفيتي وإحلال النظام الرأسمالي. يصف مدن الحال يومذاك: “لم يعد هناك ما هو سوفيتي  في روسيا السوفيتية. أصبحت الأشياء كلها روسية. والإمبراطورية التي أنشأها القياصرة وورثها عنهم البلاشفة وأضافوا إلى قوتها قوّة، تفككت إلى مجموعة جمهوريات ودول، ولم تسلم حتى روسيا تفسها من مصير صعب”.

بعد أن أنهى دراسته في ديسمبر 1992 قرر حسن مدن العودة إلى وطنه البحرين، حاملًا معه جواز سفره القديم، وصورته في الجواز تبدو عليها ملامح صبي في مقتبل العمر، شارب خفيف بالكاد يخطّ أعلى شفتيه. غير أن السلطات البحرينية في المطار منعته من الدخول إلى وطنه الذي تغرب عنه طويًلا، وسيأخذه القدر إلى دولة الإمارات!

استقر في مدينة الشارقة وتفرغ فيها للعمل في الإعلام والكتابة والتأليف. منذ الوهلة الأولى شعر بالارتياح وهو ينظر إلى الشاطئ الجميل الممتد بين الشارقة وعجمان. هل يمكن تقسيم المدن إلى مدن رؤوف وأخرى قاسية؟! يُجيب مدن: نعم، هناك مدن تأسرك من أول وهلة، حين ينتابك شعور أشبه بالحب من أول نظرة، وهناك مدن تصدّك منذ البداية، فتشعر فيها بالوحشة والغربة حين تلمس أن الرتابة وتجهُّم الوجوه وغلاظة سلوك البشر هو ما يغلب عليها.

 في اليوم السابع والعشرون من فبراير 2001  سُمح لمدن بالعودة  إلى البحرين، نتيجة لحصول التغيرات السياسية الإيجابية بالعفو عن المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين. بعد ربع قرن من الزمان عاد مدن لوطنه وأهله وقريته ورفاقه. ولأنّ كل شيء تغير، كان عليه أن يبذل جهدًا في ترميم ذاكرته التي تهشم بعض أجزائها بفعل الزمن. في هذا المشهد، استحضر مدن العبارة التالية: “إننا لا نعي عمرنا إلا في لحظات استثنائية، وإننا معظم الوقت أشخاص بلا أعمار”.