مكانة “الغضب” في الحياة الإنسانية

0
9

مهما تقادمت السنوات والأزمنة، تبقى هنالك قواعد وقيم – مركزية وضرورية – لا نستطيع من دونها، أن نفهم الحاضر أو ندرس المستقبل. ذالك الحاضر، الذي وصل إلينا بالصعوبات والآلام؛ من خلال طموحات التحديث والإختراع والتقدّم. والمستقبل الإنساني المنشود، والذي كان حلماً نبيلاً في العقود والأزمنة الماضية، يحتاج دوماً – كما كان في الماضي – إلى التنوير والإخلاص والحصانة؛ من أجل تأصيل معانيه وقيمه، في تحديات الحاضر وصورة المستقبل.

إن معرفة الحاضر وفهم المستقبل، يتطلب أولاً قراءة التاريخ ومتابعة فصوله ومساراته. تلك المسارات، التي دفعت ثمنها غالياً، الأجيال الأولى من الناهضين والمخلصين.. من أجل تغيير ومناهضة المفاهيم السيئة والمظلمة؛ من الإقطاع والفقر والتخلُّف والطبقية.


لم يتغيَّر التاريخ أبداً من خلال الجمود أو الخضوع، بل تغيَّر من خلال الابتكار والنهوض. وهذه هي القاعدة العامة لإدراك قيمة الحاضر؛ وأيضاً لتأصيل هذه المفاهيم، من أجل المستقبل. المستقبل الطبيعي والإنساني والعادل. والمعرفة الحقيقية لهذا المستقبل، تكمن في تأصيل وحراسة «معاني وأبعاد الثورة».. وأيضاً مكانة الغضب، في حياتنا الإنسانية.



(1)
إن مكانة “الغضب” في الحياة، تبدأ من خلال الفكرة والإحساس؛ بأهمية التغيير والعدالة في الحياة. ومشاريع الإصلاح السياسي في الدول والمجتمعات، تتبلور حقاً عبر تربية الذات بقيم العدالة وقيم المصلحة العامة. وهذه التربية الهادفة، تبدأ من خلال ثقافة النخب والأفراد؛ لتصل بعدها لجميع فئاتِ وطبقاتِ المجتمع.


مبادئ التغيير والتقدم الإجتماعي، تتطلب دائماً الجهود العظيمة، من أجل الوصول إلى غاياتها. وهذه الجهود والمبادئ، لا ترتبط أبداً بتقاليد المجتمع واتجاهاته السلبية؛ والتي تتمثل في مفاهيم الأنانية وعادات الرجعية. وذالك لأن الرجعية في الثقافة الإجتماعية، هي أبعد ما تكون عن قيم التقدم الإجتماعي والخير العام، لأنها تعملُ وتساهمُ في إلغاء (الإمتيازات التقليدية)؛ تلك تعكسها الهيمنة الذكورية ومحاولات الوصاية على شخصية ومكانة المرأة.



(2)
هل نعرف حقاً مكانة «الغضب» في حياتنا..؟ لا أعتقد ذلك أبداً. لأنه عندما نتعرف فعلاً على دوره ومكانته، حينها فقط؛ سندركُ ضرورية الإرتباط به، إنسانياً وحضارياً. وعند الحديث عن أهمية «الغضب».. فإننا نقصد بالتأكيد؛ ذالك «الغضب» الحكيم والعادل، ومن صميم العقل البارد.

لقد تناولنا في المقال السابق، الكثير من المسارات التي تستحقُّ من البحرينيين، الكثير من مواقف المسؤولية والإهتمام. وهذه المسؤولية، قائمةٌ على العمل والإخلاص لقيم المصلحة العامة والخير العام. ومكانة «الغضب» في هذا السياق؛ هي العامل الرئيسي في تحقيق وإنجاز هذه القيم. وجوهر الأزمة التي وصلنا إليها اليوم، يعود إلى الأسباب المختلفة والمتعددة؛ مثل أعراف وتقاليد المجتمع – الجامدة والأنانية – وأيضاً بعض التوجهات الحكومية.. ولا ننسى هنا، مفاهيم العولمة والرأسمالية؛ تلك التي أحدثتْ فجوةً كبيرةً في نمط الحياة وثقافة الناس، بين حاجاتهم الأساسية ومتطلباتهم الإستهلاكية.



(3)
بين الحياة العصرية والصحة النفسية، الكثير من المعاني والأبعاد والمشتركات، التي تجعلنا نتعرف حقاً على أهمية ومكانة «الغضب»؛ في القيم السيكولوجية والصحة النفسية. وذالك لأن حياتنا اليوم، حافلةٌ بالكثير من الضغوطات والإعتبارات، الاقتصادية والذاتية والإجتماعية؛ تلك التي تجعلنا ساعين دائماً، لإثبات وجودنا ودورنا في هذه الحياة. وليس في هذا الأمر شيئٌ من الخطأ، مادام في حدود الإعتدال والتوازن. ولكن جوهر المسألة، يكمن في زيادة التحديات وتراجع «الغضب»، ذالك الذي يضيع في وسط حالات التعب والكبت والإحباط؛ والتي تصل بالإنسان المعاصر، إلى (أمراض الضغط والإكتئاب).


وقد قرأت اقتباساً رائعاً وعظيماً في هذه المسألة، للكاتب والفيلسوف الإسباني الأصل (جورج سانتيانا)؛ وهو يبوح بأعمق المعاني – تلك المتعلقة بالإكتئاب والغضب – حينما قال: “الإكتئاب.. غضب لم يتمّ التعبير عنه”. وإن هذه الكلمة الهادفة، أعتبرها حقاً، من أصدق الكلمات التي قرأتها في حياتي. وهي، أي هذه الكلمة، تستحقُّ أن تكون مثالاً للفكر التنويري والتقدمي الحقيقي؛ بالنسبة لزمن الكاتب وحياته، والتي تلخصها الأرقام المادية بين العام (1863 – 1952)، ولكنها في الحقيقة المعنوية والإنسانية، أكبر من ذالك بكثير.



إذاً، فالصحة النفسية في هذه الحياة، تقترن كثيراً بدور ومكانة «الغضب».. تلك الإيجابية والعادلة والصحية. وإن كثيراً من (التحديات النفسية والعقلية) اليوم – وهو أمرٌ بالغُ الحساسيةِ والجدية – يرتبط بمفاهيم إلغاء الشخصية الإنسانية وكينونة الفرد؛ في ظل زيادة التنافسية والرغبات بين أفراد وفئات المجتمع – من المستويات الطبيعية والمعتدلة – وصولاً إلى المستويات المكلفة جداً، مهنياً وإنسانياً وأخلاقياً. ومن الصعب جداً، تقييم هذه المسألة في مجتمعاتنا الحديثة، ولكنني أؤمن كثيراً بمنهجية التعاون والمساعدة، وتعميم ثقافة الفرص للجميع – خصوصاً إلى الفئات المخلصة والممتازة – بدلاً من الاتجاهات التقليدية، المادية والإقتنائية، تلك التي تتجاوز جوهرية الحياة؛ والتي نراها ونختصرها من خلال قيم التطوير والإنتاجية، الذي يساهم بإثراء الوطن والمجتمع.

(4)
من الجانب الإنساني والسيكيولوجي لمكانة “الغضب”، من الطبيعي جداً، أن نستمرَّ في التعرف على الأجزاء المهمة في موضوعنا؛ من خلال فصول ومراحل التاريخ السياسي الحديث – تلك المتصلة بجذور الثورات والتحوّلات – وعبر التفعيل الإيجابي والصحيح، لفلسفة التغيير ومكانة “الغضب”. وسنتحدث في هذا السياق، عن تاريخ الثورة الصينية وبداياتها؛ والتي بدأت وانطلقت في العام 1911.


وقد أضاء الكاتب المصري سلامة موسى، عن بداية وتاريخ هذه المرحلة الأولى من (التغيير والثورة)، في كتابه التوثيقي المهم: “كتاب الثورات”.. وهو يشرح جذور وقصة الثورة الصينية؛ وأبعاد الإنحدارات التي وصلت لها، من الإستبداد والتخلُّف والرجعية. ولذالك أصبح «الغضب» هنا، أمراً ضرورياً وطبيعياً – من أجل مناهضة كل هذه المساوئ والمظالم – والتي نفهم شيئاً منها، من خلال ما كتبه سلامة موسى؛ وفي هذا السياق، يقول: “ومع أن الصينيين من أذكى الشعوب، فإن التقاليد جمّدت عقولهم، وكان نظام الحكم الإمبراطوري – مثل جميع النظم الاستبدادية – يؤيد هذا التجميد، ويدعو إلى احترام التقاليد احتراماً يكاد يكون جنونياً، إذ هو نفسه؛ أي النظام الإمبراطوري، من التقاليد، ولذلك أصبح التغيير أو الابتداع أو الإصلاح شيئاً كريهاً، على الشعب أن يتجنبه، وعلى الحكومة أن تُعاقب الداعي إليه”.


ويكمل أيضاً، في السياقات التالية لهذه النهضة، فيقول: “كانت قيادة الرئيس الصيني بعد الثورة — منذ إلغاء النظام الإمبراطوري في 1911 إلى وفاته في 1925 — ديمقراطية، تنزع إلى خطط الحريات السياسية والتوجهات، التي سادت في أوروبا فيما بين (1880 – 1920)؛ وكانت رؤياه لمستقبل الصين أنها أمةٌ تعيش في المباراة الاقتصادية الحرة، وتستصنع بلادها، وتعمم حرية الرأي وتكافح الرجعية في المجتمع، وتؤمن بحرية المرأة. ولكن هذه السنين نفسها، كانت أيضاً سنين الاختمار السياسي؛ فإن آلافاً من شباب الصين – الذين عاشوا في أوروبا وأمريكا – لم يقنعوا بالديمقراطية المألوفة في هاتين القارتين، وانضموا إلى الأحزاب اليسارية البازغة ودرسوا المذهب الاشتراكي”.


وفي مسألة الإستعمار والرجعية، يُضيف سلامة موسى، ويقول: “إن الاستعمار قوة رجعية كبيرة، لا تقلُّ أبداً عن القوات (الرجعية الوطنية)، مثل الإقطاع أو التجمُّد الثقافي أو الاستبداد الإجتماعي أو العائلي؛ بل إن الاستعمار يؤيد كل هذه الألوان الرجعية.. إذ هي تحالفه في منع الشعب من الانتهاض نحو استقلال الشخصية، أو رقي المرأة، أو زيادة أجور العمال، أو الاعتراف لهم بأي حق، أو تعميم المصانع، أو زيادة التعليم”.



(5)
إن حياتنا العصرية اليوم، قد وصلت إلى المراحل الحاسمة والمهمة جداً، من خلال التحديات والأسئلة، الضرورية والوجودية؛ في الشؤون الاقتصادية والبيئية والصحية. وعندما نبدأ بالجوانب الاقتصادية – في بلدنا البحرين مثالاً – فإن أزمة الدين العام، وتراجع القيم المرتبطة بمبادئ الخير العام – عبر وضع البرامج الإصلاحية الحقيقية من أجل تطوير وتعزيز الإقتصاد الوطني وحياة البحرينيين – قد زادت من تحدياتنا المالية والاقتصادية.


أما بالنسبة للجوانب التالية، البيئية والصحية، فإنها تحتاج منا دائماً التنبيه والمسؤولية، لأن (أزمة التغير المناخي وارتفاع درجات الحرارة)؛ ستؤدي بنا حتماً إلى الكثير من التحديات الإنسانية. والسياسات الإستغلالية لبعض الدول الكبرى، لا تخجل أبداً من محاولات الغطرسة والتسلُّط على الطبيعة؛ ولذالك يجب أن تتوحد الجهود، بين منطقتنا الخليجية وعموم القارة الآسيوية، لمواجهة مفاهيم الإحتيال والخيانة، للطبيعة والمصلحة البشرية.


وفي مسألة الصحة العامة، من الجدير أن لا ننسى، الأزمة العالمية – الطارئة والمهمة جداً – والتي تمثلت في (جائحة الكورونا)، وما عكسته من الوعي والتنوير، بأهمية تقديم المصلحة الإنسانية والمصلحة العامة؛ في مواجهة التوجهات الإنتهازية، التي تعمل على حساب الصحة العامة للإنسانية. وإن عدم إدراك الدول والسياسات والحكومات، لهذه المسألة المصيرية؛ سيفتح المجال من جديد، من أجل تكرارها على صحة البشر.



(6)
إن الحياة العامة في المجتمعات، تنتمي غالباً إلى المعتقدات الثقافية والفكرية فيها. ولا بأس في هذا الجزء من المقال، أن نتحدث عن بعض هذه المعتقدات، التي تنتمي إلى الموروث الإجتماعي في حياة القرية البحرينية. وهنالك من الأمثال والأعراف – ما يستوجب الوقوف عليها ونقدها – لأنها تنتمي إلى ثقافة الهروب والتبرير، لدور ومكانة «الغضب». ومن هذه الأمثال المتداولة، مقول: (الحلم عند الغضب ينفع)؛ تلك يرددها بعض الأجيال المتوسطة والأكبر سناً، من الرجال والآباء خصوصاً. وأذكر أنني استمعت مرتين لقصة هذه (الحكمة)، والتي يُشعرك الراوي لها، أنه سيمنحك شيئاً عظيماً من خلالها. وهي في حقيقتها، نوعٌ من أنواع النصيحة والموعظة؛ تلك التي تدعو الإنسان، إلى التأجيل وعدم التعبير عن الغضب.


ومن باب الإنصاف هنا، يجب القول؛ أننا لم ننس الخلفية الإجتماعية والثقافية للمجتمع الذي نعيش فيه – وعلى ضوء هذه الحكمة وهذه المقولة – فقد عاشت الأجيال السابقة؛ الكثير من المراحل الصعبة في الحياة والمعيشة والأوضاع الاقتصادية.


هنالك مواقفٌ في هذه الحياة، تستدعي حتماً الوقوف والتفكر والغضب.. وهنالك مواقفٌ، بالتأكيد، لا تستدعي ذالك. وإن الأفكار الاجتماعية التقليدية، تُطالبنا أحياناً بالتسليم والخضوع؛ للكثير من المواقف البعيدة عن الكرامة والعدالة في حياتنا. وهي تتطلب منا – أي تلك المواقف – مواقف الإحترام والنزاهة والشرف؛ من أجل الذات الفردية والذات الإجتماعية.

(7)
لقد تعرفنا كثيراً – وفي سياق هذا المقال – على الأبعاد والأهمية، للغضب في الحياة الإنسانية. ونحن الآن، نصل إلى الأجزاء المهمة والمركزية فيه، من خلال مواجهة مفاهيم الرأسمالية، وسياسات التفكيك للغضب في الحياة العصرية. وذالك، لأن المنهجية الناعمة – تلك المادية والإستهلاكية – تجنح بالإنسان الحديث، نحو ثقافة الإقتناء والأنانية؛ من دون التفكير القيمي أو التعاوني أو الإنساني. فيكون العمل مثلاً، غايته مادية بحتة؛ بدلاً مِنْ أن يكون وسيلةً من أجل الإنجاز والخدمة. ونعني بالخدمة هنا، أن نُساهم في الإرتقاء العام، على مستوى المجتمع والوطن والدولة.

المادية والرأسمالية، تُريدنا أن نكون مثل (الآلات من دون أرواح..)؛ أي بلا إحساس أو مشاعر أو إنسانية. وأن غاية وجودنا في هذه الحياة، ينتمي فقط؛ إلى النوم والمشرب والمأكل. وأحلام الثراء والرفاهية، تكون بلا معنى، إذا تجاوزت الحدود الطبيعية والقيم الإنسانية.


إن الأزمات والإنحدارات في عالم اليوم، تنتمي فعلاً، إلى (ثقافة الجمود الباردة)؛ تلك التي تعمل على تفكيك «الغضب» الإنساني من حياتنا. وهنالك الكثير من التحديات والشؤون في الحياة العصرية، التي تستدعي الكثير من مواقف الإستيقاظ والغضب؛ مثل الإهمال والبطالة والتخلُّف الإجتماعي وتغييب ثقافة العدالة.


(8)
مكانة «الغضب» في الحياة الإنسانية، ليس عنواناً عابراً في حياتنا أبداً؛ لأنه يمثل ذواتنا الحقيقية والطبيعية، بل الإيجابية والعادلة أيضاً. وإن أهمية «الغضب»، يجب أن تكون بذالك المستوى الرفيع من الإهتمام والقداسة؛ في وجه مواقف الظلم والأذى والإهانة. ولقد شاهدت الفنان النخبوي والراقي: «سيدني بواتييه»، في أحد أفلامه الجميلة والإبداعية، يقول: “لا بأس أن تغضب. وهذا جيد، لتكون غاضباً – وهو يُشير إلى قبضة اليد، تلك التي استخدمها في أحد المواقف المستحقة واللازمة”.

(9)
بين الأسباب والمعاني – المهمة والهادفة – لمكانة «الغضب» في هذه الحياة، تلك التي تناولت دوره الكبير في التغيير الإجتماعي؛ وأيضاً في أبعاده الصحية والسيكيولوجية، أي على الإنسان والإنسانية. ولا ننسى أبداً مكانته الكبيرة، في التأثير والمساهمة؛ عبر مسارات التاريخ السياسي والنهضة الإجتماعية. وإن كثيراً من الأسئلة الوجودية في حياتنا الحديثة – وعلى ضوء الرؤية الشاملة – للمشهد الإنساني والعالمي المعاصر؛ والتي أعتقد أنها تخبرنا، وتقول: لا تنسوا الغضب أبداً، إنه الطبيعة النقيّة الوحيدة؛ المتصلة حقاً، بين الماضي والمستقبل.