” نحن لا نسأل ماذا نكتب؟ بل ماذا لانكتب “

0
50

مكابدات محمود درويش الشاب

“الناس في بقاع العالم وفي كل زمان يحارون عادةً عما يكتبون…ولكن شاءت الدنيا أن يتغير كل شئ في بلادنا، حتى هذا السؤال…فنحن لا نسأل ماذا نكتب؟ بل ماذا لا نكتب ..فكل صغيرة في بلادنا تلحّ وتصرخ …ولم يتركوا في جسومنا مخرماً واحدا لا تصعد منه الشكوى والألم…فإذن عن أي شئ لا أكتب؟ “

هذا ما كتبه الشاعر الشاب محمود درويش إثر خروجه من المعتقل (“خواطر في السجن” – جريدة الإتحاد 1سبتمبر 1961، سارداً قصته: “أذكر كيف إستدعاني الضابط قبل ساعات من البيت، وسألني عن بعض القصائد التي أزعجته وأخذها مني بعد أن قال: أنت محرض! ودفعني إلى سيارة مغلقة…ووجدتُ نفسي في السجن..أنا محرض؟ وهل تعيبني هذه الصفة؟ وهل هناك أعزّ من أن نكون محرضين ضد حكم من هذا اللون..نعم أنا محرض…فلينشفوا واحة ديمقراطيتهم من أوحال الظلم السافر والتمييز الوقح والعهر…فليكفوا عنا حتى نكفّ عنهم” .

إعتبر تجربته الأولى في السجن “أول وسام شرف يقدّم لي”.  حماسه بالمقاومة يكتسب طابعا دينياً: “إخواني المسيحيون يعمدون أطفالهم في بركة ماء في الكنيسة..وشعبي يعمد شبابه في السجون، وقبل أيام خرجت من هذا العماد المقدس..”.  سيختم مقالته ساخراً من سجانيه بقوله “فشكراً لهم على أوسمة ونياشين الشرف التي زيّنوا بها صدري…وشكراّ للمائتين وعشرين ساعة التي أنفقتها في ليل سجونهم، فكبرت مائتين وعشرين مرة…وكبرت نقمتي مائتين وعشرين ضعفا…وكبر إيماني وحبي لك ياشعبي مليون مرة…”.

طيلة عقد الستينات  من القرن الماضي، سيساق درويش إلى المعتقلات مرة تلو الأخرى (خمسة إعتقالات). غالباً ما كانت قصائده الشرارة التي أشعلت حقد سجانيه، على النحو الذي يُذكّرنا بمصير مماثل تعرض له الشاعر التركي  ناظم حكمت قبله بنصف قرن (وفي نفس العمر أيضا)!

 سنة 1961 بالتحديد، مثيرة للإهتمام على نحو خاص في سيرة محمود درويش الفكرية، إذ تشير الباحثة مها نصار  الى أنه بعد انضمامه “رسمياً” إلى الحزب الشيوعي الاسرائيلي في ذلك العام تمّ إعطاؤه عموداً منتظما حيث كتب، من يوليو 1961  إلى يناير1963، أكثر من خمسة وأربعين مقالة ناقشت مختلف المسائل المتعلقة بالأدب والسياسة قبل الانتقال بدوام كامل إلى هيئة تحرير الجديد”. نشرت بعض مقالاته لاحقا في كتابه الجميل “شئ من الوطن” (يتضمن كافة نصوصه النثرية في الستينات). كما تذكر الباحثة أيضاً (وفقا لإحصاءات قامت بها  شملت الفترة من 1960 إلى عام 1967) أن درويش نشر  ثمانية وأربعين قصيدة في “الاتحاد” و”الجديد”، ظهرت ستة عشر منها لاحقا في مجموعاته الشعرية. الإيقاع والإيجاز وحرارة الشحنة العاطفية، كل ذلك جعل من الشعرَ جنسًا أدبيًا مناسبًا للتعبئة السياسية آنذاك. وهكذا تكامل الشاعر مع الصحفي في شخص درويش  بصورة نموذجية.

كيف فهم محمود درويش الإلتزام؟

دخل محمود درويش وسميح القاسم بوابات الشعر ضمن سياق  ثقافي وفكري  في مطلع الستينات إتسمّ بالجدل  حول دور الشعر والأدب، وعلاقتها  بالالتزام السياسي، خاصة بعد ما احتدّ النقاش في أعقاب دعوة  بدر شاكر السياب في عام 1961 إلى تحرير الشعر من التحزب السياسي الذي يؤثر على جمالية النص الشعري، وقام بعدها حسين مروة بالرد عليه في مجلة (الطريق) قائلا إن من شأن ذلك أن يفرغ الشعر من محتواه. محمود درويش من جهته سيوجز طرحه ببساطة،  وبعيداً عن التنظير المبالغ فيه، وذلك في مقال بعنوان “عشر سنوات” نشره في ديسمبر 1962 في مجلة (الجديد): “ماذا يريد شعب مكوّن من مليون لاجئ من أدبهم. . . ؟ ماذا يريد الناجون وأحفاد شهداء دير ياسين وكفر قاسم من أدبهم. . . ؟ ماذا عن الأشخاص الذين حارب إخوانهم الأبطال  من على قمم جبال الأوراس في الجزائر، على تربة بورسعيد، في شوارع بغداد، والمناطق البكر في اليمن وأماكن أخرى – ماذا يريدون من أدبهم؟ ببساطة، يريدون أدباً ينبع من هذه الجروح، ومن هذه الانتصارات، وليس فقط بعض التمتمات اللفظية المنتشرة في مهب الريح.”

غسان كنفاني سيصف تلازم صفتي  الشاعر بالمناضل الحزبي لدى محمود درويش بتعبير “الدرع والرمح”، حيث القصيدة السياسية هي الرمح، والحزب بمثابة الدرع للشاعر. وهو توصيف دقيق ومناسب لتلك المرحلة، إلا أن  محمود درويش – بعد عقود طويلة – سيشرح العلاقة بصورة أعمق. فعندما سؤل في إحدى المقابلات عن أثر إيمانه بالمنهج الاشتراكي على صياغة شعره أجاب: “في الصياغة لا أعتقد… ولكنه ترك أثراً حاداً في الجوهر والمضمون …المنهج الاشتراكي العلمي أعطاني المنهج لفهم التطور الاجتماعي والتاريخي، وأغنى رؤياي بالأمل الواعي”. كل ذلك يجب أن يفهم بالارتباط مع الكيفية التي مارس فيها درويش دوره كمثقفٍ ملتزم، وهي عملية ستتخذ أشكالاً مختلفة خلال حياته.  

 في مقابلة أجرتها إحدى القنوات الأجنبية في أواخر التسعينات،  تمّ طرح السؤال التالي على درويش: ما هو تعريفك للإلتزام؟ فأجاب: “الإلتزام هو الإحساس الحرّ، بطريقة التعبير الحرة، عن المسؤولية الحرة”.  درويش يضع معياراً صارماً على كل من الإحساس والتعبير والمسؤولية، فجميعها يجب أن تكون وفق إرادة حرّة. فالإحساس لا يجب أن يخضع للإرغام، كما لا ينبغي للتعبير أن يكون مُقيّداً، ولا أن تفرض المسؤولية قسراً. بهذا الفهم للإلتزام الحر الواعي سيسعى  درويش لممارسة دوره كمثقفٍ ملتزم، وهي صفة ستميّزه عن الكثير من  المثقفين، ولكن ستفرض عليه مواجهة جملة من التحديات  والمعضلات الشائكة التي سيواجهها بخيارات شجاعة  ( كما سنرى في حلقات لاحقة ).

وجد محمود درويش الشاب في عمله بالصحافة الحزبية نشاطاً يصقل شخصيته الفكرية، لذلك نجده يتذكر بعرفان كبير تجربة عمله في جريدة (الاتحاد) في حيفا: “لعلي كنتُ في مدرسةٍ لا جريدة. هناك تعلمتُ الكتابة الصحافية، من صياغة الخبر إلى التقرير إلى الريبورتاج إلى المقالة والافتتاحية. وهناك تعلمتُ المشي على طريق المستقبل بثقة الشباب الممتلئ حماسة. وهناك أيضاً تعلمت الاهتداء إلى ذاتي وإلى علاقتها بالجماعة… لقد أسهمت (الاتحاد)  في بلورة وعينا بحقوقنا القومية، وبحقوقنا كمواطنين في دولة ليست لنا! …وساعدتنا في التعرّف على هويتنا الثقافية التي كانت مهددة بالتشظي والتمزق، ومنها وصلت أصواتنا الشعرية إلى العالم”. 

حيفا… مدينة التجارب الأولى

الصحافة الحزبية بوصفها ورشة عمل، كانت مرتبطة أيضا بأجواء حيفا في منتصف الستينات. يقول درويش: “في حيفا عرفتُ كل أنواع التجارب الأولى: تجربة الكتابة، تجربة النشر، تجربة العمل الصحافي، تجربة السجن، الاعتقال المنزلي والإقامة الجبرية.. في حيفا ترعرعت شخصيتي الشعرية والثقافية والسياسيّة أيضاً. وبالتالي أستطيع ان أعتبر أن اكثر مكان موجود في نصّي الشعري وفي تكويني الثقافي هو حيفا، بدون شك”. من المعلومات الطريفة التي يوردها عباس زين الدين (أحد رفاق محمود درويش في جريدة الاتحاد)  أن عنوان مكاتب جريدة الاتحاد آنذاك كان: “بستان الشيوعية” في بناية الأرمن – شارع الخوري 23 – حيفا . .. حتى في العنوان سنجد شيئا من الشعر! 

هناك ستتوطد علاقة محمود درويش بصديقه سميح القاسم، وهي صداقة عمر وفكر وروح (أطلق عليهم الأديب الفلسطيني محمد علي طه تعبير شقي البرتقالة الفلسطينية). تشير مها نصار إلى أنّ “سميح القاسم ومحمود درويش كانا على  رادار الحكومة منذ نشر مجموعاتهما الشعرية الأولى، وبالإضافة الى قصائدهما،  فإن السلطات كانت تراقبهما “كمخربين”، خاصة بعد تزعم الاثنين للمظاهرات المنددة بالاحتلال في الذكرى الرابعة لمجزرة كفر قاسم 1960. وعلى الرغم من عدم تحزّب سميح القاسم آنذاك (دخل الحزب في عام 1967) إلا أنّه أثار غضب السلطات بعد رفضه أداء الخدمة العسكرية الالزامية التي كانت مفروضة على الدروز (كون سميح ينتمي إلى الطائفة الدرزية في فلسطين). نتيجة لنشاطهما السياسي، تم وضعهما تحت الاقامة الجبرية في حيفا بالإضافة إلى ذلك، كان عليهما الحضور إلى مركز شرطة حيفا ثلاث مرات كل يوم للتحقق من أنهما لا يزالان في المدينة. في كل ليلة من غروب الشمس إلى شروق الشمس، كانا محصورين في مسكينهما، حيث ينتظران وصول شرطي أو جندي، دون سابق إنذار وفي أوقات تختلف من ليلة إلى أخرى، حتى يتمكنا من التوقيع على نموذج يثبت أنهما في المنزل”.

 على الرغم من قسوة هذا الوضع فإن الشاعرين كانا يفيضان حبا بالحياة، كما نستشف من إحدى النصوص النادرة  التي كتبها درويش  عام 1965 بعنوان “على هامش أغاني الدروب”- وهو عنوان ديوان سميح القاسم : “التقيتُ بسميح القاسم منذ عشر سنوات، ومن يومها يكاد يكون لقاؤنا يومياً.. نقرأ سوية، ونشهد ميلاد قصائدنا سوية، ونكاد لا نختلف على رأي. ومن هنا يواجهني السؤال المحيّر: عمن أكتب؟ عني أم عن سميح؟…. أحياناً، ينسى الإنسان واقعه.. ينسى أنه يمشي على الشوك.. ولكنه عندما يجلس إلى هذا الديوان يتنبه فجأة إلى واقعه، وقد يسأل نفسه: أحقاً هكذا أنا؟ ويصفعه سميح بقسوة إنسانية: نعم. هذا أنت !…ليس صحيحاً ما يقال عن سميح أنه رقيق إلا إذا كان السنديان رقيقاً!، والصحيح أنه جارح لا يرحم الجرح حتى يلتئم. ولذلك.. يندب.. يصرخ.. يسخر…. وسميح، لا يمتهن الشعر ويحترفه. إنه يكتب لأنه يعيش.. ما جدوى حياتنا بدون شعر؟”. ثم يذكر درويش الحادثة التالية: “جلسنا مرة في مقهى صاخب حتى ساعة متأخرة من الليل، وقلنا : لننس وجهينا! ولنشرب. كانت ليلة عيد كبير. لم نشعر بالضياع كما شعرنا تلك الليلة. لا أحد يعرفنا . . . وعاد كل واحد إلى غرفته ليسهر حتى الفجر. ونلتقي مساء اليوم التالي ليقرأ لي قصيدة (غرباء) ولأقرأ له قصيدة (الحزن والغضب). لماذا كتب كل منا قصيدته؟ مرة أخرى يعود السؤال. لأننا نعيش. وهكذا في أكثر أشعاره.. يكتب ليعرف نفسه.. ليعمل.. ليحتمل الحياة”. … ما كتبه  درويش عن سميح، ينطبق عليه أيضاً، كما لا يزال يُلهمنا إلى اليوم: “يكتب ليعرف نفسه ..ليعمل …ليحتمل الحياة”.