هل العلمُ الذي نتلقاه علميٌّ بما فيه الكفاية؟

0
33

جرى حوار بيني وبين قريبٍ لي حول المسألة النباتية، وبتُّ أسأل ما إذا كان الجواب العلمي الذي استند عليه كلٌّ منا علمي بما فيه الكفاية، وبأي قدر من التحيزات يمكن أن يحتمل العلم الذي يدّعيه كل واحد منا مستندًا إلى ما تلقاه عن طريق المسموع وثقته بالوسطاء المخبرين دون خضوع هذا العلم الذي ندّعيه للتجريب الذاتي. ولو سأل كل واحد منّا محرك البحث “غوغل” فغالبًا لن يكون السؤال موضوعيًا، إذ أننا في معظم الأحيان نقوم بطرح الأسئلة على محركات البحث ليس للحصول على جواب علمي بقدر ما هو الحصول على الجواب الذي نبتغيه. سأكتب: “ما هي فوائد النباتية؟” وتكتُبْ: “ما هي أضرار النباتية؟” ليسطر لك محرك البحث الأجوبة التي تعزز آراءك المسبقة. وتبادر لذهني كيف يمكن للحيرة بهذا القدر أن تتسرب لأجوبة تتعلق بأقرب موضوع يمكن للإنسان دراسته وتفحصه، وهو “الجسد البشري”.

إن ما يتحدث عنه الناس غالبًا بصفته علمياً، يخرج من العلم إلى المنطق، أي للعقل الذي يحتكم، إذا ما لم تتم مراقبته وتهذيب أدواته، في كثير من الأحيان للرغبات والمسبق الجاهز، فيقوم بتطويع الاستدلالات والبراهين لما تحتمله الذات مسبقًا خدمةً لغاياتها، وما يحدث في مسألة هي في غاية القرب من البحث العلمي كـ ” النباتية والجسد البشري” يحدث بشكل أكبر في مسائل تتعلق بالوجود الذي ينتقل العلم عند نهاياته فيه إلى الفلسفة كما يخبرنا ستيفن هوكنغ في كتابه “تاريخ موجز للزمان”، أما في ما يتعلق بالتاريخ وعلم تأويل النص فالمسافة بين العلمي والعقلي والذاتي تكون مشتبكة والمنطقة الرمادية تتسع بشكل أكبر.

 وفي دراسة قدمها د. عبدالله السفياني بعنوان “حجاب الرؤية” تحيل أسباب اختلاف العلماء – وهو هنا يقصد الفقهاء – إلى عوامل تخضع لاختلاف بيئة الفقيه، طبقته الاجتماعية، وتكوينه النفسي. وهذه كُلُّها حُجُب تُنتِجُ رؤية العالم، أما العامل الأخير – التكوين النفسي – فيصعب دراسته، لأنه يتعلق بالذات وهواجسها، كأن يكون الفقيه ذا وساوس، فتكون أحكامه قائمة على التّحوّط والاحتراز، أو يكون منظوره لله مبني على الرحمة وحسن الظن فتكون أحكامه قائمة على التوَسُّع والتخفُّف على الناس.

إن ما يحدث من تضارب في معلومات البحث العلمي كثير، وأنت اليوم إذا ما تلقيت دراسة علمية عليك أن تفحص الطبقة الاجتماعية التي ينتمي لها صاحب الدراسة أو المؤسسة التي أصدرتها، والبيئة التي صدرت منها لفهم أوسع للأسباب التي تحرك العقل العلمي من ثم قراءة النتائج، ولأني مهتم في الفترة الأخيرة بالذكاء الاصطناعي، أجريت محاورة مع “Gemini” الذي يوفره غوغل وطلبت منه أن يخبرني عن النباتية من وجهة نظر علمية، فسطر لي مجموعة من الفوائد التي تنعكس على جسد الإنسان والبيئة بشكل عام نتيجة اتخاذ الخيار النباتي، بالإضافة للأعراض الجانبية أيضًا.

يمكن لعالمٍ ما أن يتوسع في الفوائد دون ذكر الأعراض وهو بذلك لا يكذب، إلا أن تركيزه على جانب الفوائد قد يكون محتكمًا لفلسفة أخلاقية قبل البحث العلمي أو للحساسية من ذبح الحيوانات وتقدير حيواتها مثلًا، أو اهتمامًا من العالِم بالحياة البيئية. بينما يتوسع باحثٌّ آخر – شخص أو مؤسسة – في ذكر الأعراض الجانبية وما يحدث من نقص في بعض الفيتامينات أو المعادن والبروتينات للجسد نتيجة عدم أكل اللحوم، وهو بذلك لا يكون كاذبًا، إلا أنه يُبرز جانبًا ويخفي آخر احتكامًا لرؤية تقول: “لا تُحرّموا ما أحلّ الله”. فتكون المعلومة العلمية هنا خاضعة لمعتقدات ذاتية ودينية مُسبقة، أو لغايات ذاتية أخرى ترتبط باستفادة صاحب البحث العلمي فردًا كان أو مؤسسة من بيع لحوم الحيوانات، أو قد تكون هناك معلومات أخرى يعتقد صاحب الاستنتاج أنها علمية فيبني عليها هذا الاستنتاج.

إن معظم معرفة الإنسان لا تقوم على العلم الحقيقي، أي التجريب، إنما على الثقة بالوسيط المُخبر؛ ثقتك بالعلم في المجمل تشبه ثقة أتباع الديانات بما أخبره أنبياؤهم، تسليم المواطن بما تم تمريره من معلومات القيمة الغذائية على علبة البطاطس من قِبل منظمة الصحة العالمية ووزارات الصحة في بنيته  لا يختلف كثيرًا عن التسليم الإيماني القائم على الثقة والتصديق عند أصحاب الديانات، فأول الإيمان “التصديق” وأول العلم هنا “التصديق” أيضًا، فعندما يقف المرء متأملًا محودوية فهمه ومصادر المعرفة التي يتلقاها العقل فسوف لن يصل إلى أبعد مما وصل له الفخر الرازي تواضعًا:

ولم نستفد من عِلمنا طول دهرنا

سوى أن جمعنا فيه قيلَ وقالوا       

أما شخصيًا، فأنا أقدّر الأشخاص الذين يتّبعون نظامًا نباتيًا وأحترمهم، وهذا التقدير بالطبع لنواحٍ أخلاقية، أما علميًا فلستُ مخولًا للحديث في المسألة، ولأن التجربة الذاتية ضرورية لحسم هذا الأمر بالنسبة لي، حاولت منذ سنوات تطبيق الأمر على نفسي، ولم أدم عليه أكثر من ستة أشهر، حيث شعرت بالوهن، لأن نظامي في الحياة بطبيعته ذو نشاطٍ عالٍ، ولا يمكنني أن أجزم أن الوهن قد يصيب الكل، أو أن هذا النظام ليس أكثر صحة لأغلب الناس، ولأني قمت بهذا التغيير في نظامي الغذائي بشكل عشوائي مسبقًا قد أخوضه مرة أخرى مع استشارة طبيّة.