أديب أَمْ مناضل أَمْ فيلسوف أَمْ كلّها جميعاً…!

0
16

صاغ غرامشي مفهوم المثقف العضوي على طريقة المثقف الذي يخرج من طبقتهِ الفقيرة المعدمة والمضطهدة الى مستوى أرفع، فيكرس اهتمامه وكتاباته للدفاع عن تلك الطبقة ولفت الإنظار والإشارة الدائمة إليها من أجل تحسين وضعها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. ربما نجد في الكاتب الكبير فيلسوف الأدباء جوزيه ساراماغو مثالاً قريباً للشخص الذي نظّر له غرامشي. انطلقَ ساراماغو من عائلة فقيرة جداً ليبدأ حياته العملية كموظف ميكانيكي ثم انتقل بعدها إلى الصحافة ثم الثقافة والكتابة ولم تكن تنقلاته سهلة إطلاقاً، جعلَ الكتابةَ عن الفقراء والبسطاء والمضطهدين من أهمِّ أولوياته، فكتبَ عن الإنسان والفقرِ والوعي والثورة والفلسفة مستخدماً المجال الذي برع فيه وهو الأدب الروائي حتى تحصّلَ على جائزةِ نوبل للآداب.

لم يكتفِ ساراماغو بالحديث عن طبقتهِ وفِئَتهِ داخل حدود ثقافتهِ وموطنهِ الجغرافيّة، بل تجاوز تلك الحدود إلى العالم، فأظهر اهتماماً كبيراً بفقراء العالم، تحدث عنهم في كل مكان وفي معظم أعماله، انتقد الأنظمة الاستبدادية والهيمنة الإمبريالية والرأسمالية العالمية، والتمييز العنصري وكان “الأفضل في تحيّزه للإنسان” كما تقول زوجته بيلار. وطوال حياته المهنية ككاتب ومثقف ومناضل زاوج النضال السياسي والاجتماعي بالثقافة والأدب، وكان قد انتمى الى الحزب الشيوعي البرتغالي منذ العام 1969 وظلّ عضواً فيه حتى وفاته عام 2010. فهو فنانٌ فرضَ عليه فنُّهُ ونظرته للحياة أن يكونَ إنساناً ومناضلاً.

في رواية “العمى” -على سبيل المثال لا الحصر- ابتكرَ واقعاً موازياً في حكايةٍ فلسفيةٍ عن عمى البشر وانحرافهم الأخلاقي وعن مدى هشاشة المنظومة الأخلاقية الظاهرية التي يتبدّى وجهها الحقيقي في الأزمات والكوارث والحروب، الأمر الذي قد يؤدي تفاقمه في نهاية المطاف الى تدمير الإنسان لذاته بذاته وقد تصل بشاعة هذا الانهيار الى تدمير كينونة الإنسان وإبادة الآخر. وهو بهذا العمل وأعماله الأخرى يُدين بأساليب متعدِّدة الشركات الرأسمالية التي ستقضي على حقوق الإنسان لتستحوذ عليه وتسعى لاستغلاله استغلالاً بشعاً. ويتحدث في رواية “العمى” أيضاً عن مستقبل الطب والإدارة ومفاهيم مثل الوفاء والإيثار ومعنى التضامن الإنساني في مقابل الانتهازية، ويرثي للحالةِ التي وصلت إليها البشرية في العصر الحديث، يقول مثلاً: “نحن عميان لكننا نرى” أي أننا نفتقد البصيرة التي تقود إنسانيتنا نحو الأهداف الأسمى والتعاطف مع الإنسان في الظروف الصعبة والاستثنائية.

كان سراماغو أحد أعضاء وفد برلمان الكتّاب العالمي الذي زار مدينة رام الله 2002 خلال انتفاضة الأقصى مع مجموعة من الكتّاب الغربيين منهم مثلاً: وول سوينكا، بريتن برتنباخ، خوان غويستول، رسل بانكس. أعربَ هؤلاء الكُتّاب عن دعمهم للكفاح العادل الذي يخوضه الشعب الفلسطيني، وشجبوا غطرسة الاحتلال الذي يغتال الأرض والإنسان الفلسطينِيَّيْنِ. وعندما رأى ساراماغو القرى الفلسطينية المحاصرة بجدران الفصل العنصري والأسلاك الشائكة وعساكر جيش الاحتلال قارب ما شاهده بمعسكرات الاحتلال النازية، حتى اتهمه بعض الكتّاب في الغرب بمعاداة الساميّة!

كتب ساراماغو عندما عاد من زيارته مقالةً فضح بها زيف ادعاءات الحركة الصهيونية وعنصريتها وسلوكها اللا إنساني. عقد في مقالته التي وسمها بعنوان “من أحجار داوود إلى دبابات جُليات” مقارنة بين السردية الصهيونية التي تصوّر داوود الفتى الضئيل الذي لا يمتلك سوى الحجر مقابل العملاق جالوت الهمجي المدجج بالسلاح والبرونز، يهزمه داوود الأشقر بعقله ومقلاعه. لكن الواقع الذي نعيشه عكس تلك السردية تماماً. يقول ساراماغو: “إن داوود الزمان القديم ذلك يحلّق الآن في طائرات الهيلوكوبتر فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويطلق الصواريخ على الأبرياء العزّل، وداوود العصر المنصرم ذاك يقود أحدث دبابات العالم وأقواها ويسحق ويفجر كل ما يعترض طريقه. داوود الملحمي ذاك أعيد تجسيده الآن في صورة مجرم حرب…”.

ويتساءل ساراماغو متعجّباً، كيف يمكن لشعبٍ عانى عذابات الإبادة والتهجير أن يقوم بذات الأعمال ضدَّ شعبٍ بريءٍ آخر، يقول: “وإنني أتساءل لو أن اليهود الذين فقدوا حياتهم في مراكز التعذيب النازية تلك، وهؤلاء الذين ظلوا على مَرّ التاريخ والذين انغلقوا على أنفسهم في أحياء “الغيتو” الفقيرة، ترى لو أن هذه الجموع الهائلة من البائسين رأت الأفعال الدامية التي يأتي بها أحفادهم ألن يشعروا بالخزي والعار؟! أوليست المعاناة الشديدة هي دائماً أقوى دافع كي لا نتسبب في معاناة الآخرين؟! انتقلت حجارة داوود الى أيادٍ أخرى، فالفلسطينيون هم الذين يلقونها الآن. وأصبح جليات في الجانب الآخر كما أصبح مسلحاً مجهزاً أفضل من أفضل الجنود في تاريخ الحروب أجمع. هذا بالطبع الى جانب مساندة الصديق الأمريكي الوفي. ثم يتحدثون عن جرائم القتل الرهيبة للمدنيين اليهود!”.

إن شخصيةً مناضلةً مفعمةً بالإنسانيةِ وحب الأدب والفلسفة والحياة لابد أن تكون على النقيض من التوحش والظلم. وقوف ساراماغو إلى جانب القضية الفلسطينية والتحدث عنها ليس بالغريب، إنما يتماشى تماماً وسيرته النضالية الغنية، تقول بيلار:”كان مشغولاً بالإنسان في كل مكان في العالم”. سيلاحِظ القارئ الفطِن (الحساس في وصف باموق) أن شخصيات ساراماغو ليست اعتباطية بل أن كلَّ ما فيها مقصود وله دلالة معينة، وعوالمه الغرائبية ليست مستغربةً وليست عوالم بسيطة وسطحية، فهو يتميز بخيالٍ خصب وكان مولعاً بالميثولوجيا والتاريخ. الى جانب ذلك فقد ضمّنَ معظم أعماله أفكاراً فلسفية وأدباً رفيعاً، فهي إن صح التعبير أدبٌ إنسانيٌ مُفلسف، أو فلسفة الأدب الإنساني. وفي العام 1998 كان ساراماغو أول روائي برتغالي يتحصل على جائزة نوبل، قال حينها: “لم أبتعد عن طريقي الذي دأبتُ على السير فيه، سواءً ككاتب أو كمواطن. لم تغيّرني جائزة نوبل لا نحو الأفضل ولا نحو الأسوأ…وحمّلَتني الجائزة قدراً من المسؤولية وهي مسألة لا يمكن أن أخونها مهما كلّف الأمر. من المهم أن يحافظ الإنسانُ على جوهرهِ.. على حقيقتهِ، وذلك ما نحن في صدد خسارته للأسف؛ حقيقتُنا”.