تشكلت الصالونات الثقافية العربية على مدار التاريخ محطة من المحطات المهمة في الثقافة العربية، ومع تعدد التسميات عبر هذا التاريخ، مثل: منتدى، مجلس، صالون، جماعة، ديوانية، فهي تعطي دلالة واحدة تعنى بتقديم الثقافة والفكر والأدب، ولكن هناك في بعض البلدان قديمًا فرز لهذه الصالونات أو المجالس، إذ ظهرت المجالس الأدبية المعنية بالشعر والنثر والنقد والخطب، مجالس العلماء والنحويين، كما كانت هذه المجالس تسمى بأصحابها ،وعادة ما تكون لعلية القوم، مثل: مجلس الرشيد، وتاريخ تلك الحوارات والمناقشات في القضايا النحوية التي دارت بين سيبويه والكسائي، ومجلس المأمون الذي كان مقره في دار الحكمة، وقد حوله إلى ندوات علمية تطرح فيها ضروب المعرفة، ومجالس البرامكة، كمجلس يحيى بن خالد البرمكي والحوارات بين المتكلمين والمتفلسفين، مجلس سيف الدولة الحمداني، ومجلس الصاحب ابن عباد، ومجلس المعتمد ابن عباد، ومجالس للنساء كمجلس ولادة بنت المستكفي في الأندلس، كما كانت هناك مجالس خاصة بالمسائل الدينية وعلم الكلام التي كانت في مساجد وجوامع أكثر الحواضر العربية، كبغداد والبصرة والكوفة ودمشق (الجامع الأموي) والقاهرة (جامعة الأزهر) والقيروان بالمغرب، وفي الحرمين المكي والمدني، بالإضافة إلى المسجد الأقصى.
ومن تلك الشخصيات التي كانت أعلام الثقافة والمعرفة في البصرة يلتقون، وقيل عنهم كما أشار رشيد الذوادي، مقاهي الأدباء في الوطن العربي، ص19-23، بأن في أحد مجلس البصرة كان يجتمع فيه عشرة لا يعرف مثلهم، وهم على التوالي: الخليل بن أحمد الفراهيدي، ومحمد الحميري، وسفيان بن مجاشع، وبشار بن برد، وصالح بن عبدالقدوس، وابن رأس الجالوت، وابن نظير، وعمر بن آخت المؤبذ، وحماد عجرد، وابن سنان الحراني، كما أن هناك مجلس آخر بالبصرة أيضًا تعاقبت عليه ثلة من الأدباء وأصحاب الكلام، مثل: عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء.
وربما نحسب الأسواق والمهرجانات الأدبية والشعرية بخاصة، والمعارض الفنية والتشكيلية التي كانت تشيد في بعض المناطق أو الصالات من أجل الأدب والفن والعرض، أو معارض الكتاب التي تقام على مستوى العالم، فهي أيضًا لا تبتعد عما يمارسه المجلس الثقافي أو الصالون، فكل هذه الأمكنة طالما تغطى بالثقافة والأدب والفكر، فهي تتلاقى وهذه الصالونات، فسوق عكاظ في الحجاز آنذاك الذي يتجمع فيه الشعراء والمبدعون ويقرأون نصوصهم أمام مجموعة من المحكمين، وإن الخيمة التي كان ينصبها الشاعر صاحب الحوليات زهير ابن أبي سلمى في سوق عكاظ، بمثابة مجلس أدبي، حيث يتحاور مع الشعراء فيما يكتبون ويطرحون من قصائد، التي يشبه تلك القراءات التي كانت ولاتزال موجودة في المجالس الثقافية، حيث يلقي الكاتب أو المبدع ما لديه، ويتم الحوار والنقاش حول ما سمعوا ليعرف موقع نصه إبداعيًا وفنيًا وقيمة ثقافية ومعرفية. وكذلك مهرجان المربد ذاع الصيت في البصرة قديمًا، الذي كان سوقًا تضم عددًا من المجالس الأدبية موزعة بين القبائل والشعراء والمبدعين، وها هو المربد أصبح من أهم وأكبر المهرجانات التي يحسب لها الشعراء ألف حساب حينما تأتيهم دعوة للمشاركة، لما يحظى هذا المهرجان من مكانة تاريخية وحضارية وثقافية وشعرية عربية عالية.
ومع التحوّلات في البنى الاجتماعية والثقافية، وتطور المجتمع، ورغبات زائدة لدى الخلفاء والأمراء ورجالات الخلافة الإسلامية وقبلها الدول الكبرى التي كانت مسيطرة على المناطق العربية وغير العربية، مثل الغساسنة والمناذرة، ثم الدول التي تعاقبت على الدولة الإسلامية من الأمويين حتى الفاطميين وغيرهم مرورًا بالعباسيين والدويلات التي انبثقت من جسد الدولة العباسية، وكذلك الدولة الأموية في الأندلس، كل هذه فكرت مليًا، وعرفت أهمية الأدب والفكر والثقافة التي لابد أن تكون قريبة من قصورهم، بل في عقرها، لهذا هناك الكثير من المصادر العربية التي تؤكد حضور هذه النخب المثقفة مجالس هؤلاء الملوك والخلفاء والأمراء، لكن في الوقت نفسه سببت هذه المجالس بعض العداوات والخلافات والحساسية المفرطة بين الشعراء، وخلافات بين الفلاسفة، ومشاحنات بين النحويين واللغويين، وما الخلاف الذي وقع بين المتنبي وسيف الدولة الحمداني إلا بسبب الغيرة الزائفة بين الشعراء، أو تلك التحديات الشعرية بين الشعراء الثلاثة (جرير والفرزدق والأخطل) هؤلاء الذين أسسوا لفن الهجاء تحت عنوان (النقائض)، أو التحدي الذي أعلنه أبو جعفر المنصور، وتحدي الأصمعي له بقصيدة صعبت عليه وعلى الجارية حفظها وإعادة قولها.
كما ظهرت مجالس كثيرة عبر عصور الدولة الإسلامية، ولكن مع التطور في البنى التحتية للثقافة في العصر العباسي، ودخول الترجمة، وبروز علوم أخرى كالفلسفة وعلم الكلام ومدراس النحو، والفرق الكلامية، زادت اللقاءات في مجالس الخلفاء والأمراء، وكثرت زيارات الأدباء لمجالس الأنس والسهر والطرب، وفي الوقت نفسه لا تخلو هذه المجالس من الفكر والثقافة والأدب، إذ يتبارى الشعراء فيما بينهم، أو يتحاور الفلاسفة في قضايا شائكة، أو يتجاذب أصحاب الفرق الكلامية حول بعض الموضوعات اللغوية أو النحوية أو المعرفية أو الدينية. بل هناك أنواع من المجالس التي كانت منتشرة، وبالتحديد في العصر العباسي لما لها من دور في التواصل والتلاقي بين الحضارة العربية والحضارات الأخرى غربية وشرقية، وهي: اليونانية والرومانية والفارسية والهندية، وهذا لا شك يسهم في إدخال عادات وتقاليد وثقافات تمتزج بما لدينا نحن العرب، لذلك لا غرابة في وجود مجالس الندماء والمجون والطرب، وقد أشارت بعض المصادر لهذه المجالس، مثل: كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني، وكتاب الأمثال لأبي الفضل أحمد الميداني، وكتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، وغيرها من كتب التراث والأدب والتاريخ والرحلات.
ولو نظرنا إلى البحرين، فقد برز عدد كبير من المجالس، وبالأخص مع الانفتاح والتحولات التي حدثت في البحرين بدءًا من العام 2000، أي مع الألفية الثالثة، إذ ذهبت هذه المجالس لتقديم خدماتها الثقافية عامة، ولكن أكثرها راح يهتم بالشأن السياسي المحلي، فضلاً عن تقديمها بعض البرامج ذات العلاقة بالحياة الاجتماعية أو الأدبية، أو في الثقافة العامة أو المتخصصة، وهناك مجالس اقتصرت دورها في النشاط التخصصي، وغالبًا ما تكون هذه المجالس في سياق الشأن العلمي الأكاديمي، وبالتحديد في مجال الأدب واللغة، وثالثة كانت عبر تاريخها مهتمة بالأمور الدينية، وبين الحين والآخر تقدم بعض المجالس برامج تخص الساحة العربية أو العالمية، وبخاصة حينما تبرز أحداثًا ذات شأن جماهيري أو حياتي أو إنساني، وهناك مجالس لا تعقد الندوات ولا المحاضرات ولا اللقاءات، وإنما يكمن نشاط هذا المجالس في العلاقات الاجتماعية وتبادل الأخبار العامة في المنطقة المحصورة ذات العلاقة التي تربط المجلس ببيئة المكان الكائن فيه، وربما تبرز بعض الحوارات العفوية غير المعدة بحسب ما يطرح من حوار بين الحضور والمدعوين.
وفي كل الأحوال فإن هذه المجالس وتعدد أنشطتها تسهم في تحريك المياه الراكدة، وتنشط أفراد المجتمع، وتجعلهم يقفون على المستجدات من قضايا الإنسان، وهذا في حد ذاته حسنة مهمة تحسب إلى هذه المجالس، وبخاصة في ضوء الصراع والتنافس غير المتوازن بين حركة المجتمع وأفراده ومجالسه، وبين الطفرة التكنولوجية واتساع رقعة التواصل الاجتماعي الذي كانت ولا تزال تضم بين دفيتها الرث والثمين، وتحاول بعض هذ المواقع والحسابات العالمية بث ما لا يتوافق وروح المجتمع أو مبادئه وقيمه أو تطلعاته، لذلك أعتقد أن وجود هذه المجالس ضرورة ملحة في محاولة بيان ما ينبغي أن يكون تبعًا لما يتوافق والمجتمع الذي نعيش فيه، وما تتطلبه المراحل التاريخية، وأهمية الوعي المجتمعي الجمعي والفردي.
وفي العصر الحديث لم يقتصر دور الصالونات الثقافية أو الأدبية في البلاد العربية على الأدب شعرًا ونثرًا، بل كانت تطرح القضايا والأفكار الأدبية، كما تطرح القضايا الفلسفية والفكرية والفنية بتنوعها ومجالاتها من مسرح وسينما وتصوير ونحت وغيرها، وكان الكثير من المعنيين بنهضة الوطن العربي وتنوير أفراده، والذين أسهموا في حركة التنوير العربي كانت لهم صولات وجولات كثيرة صدحت بين جدران هذه الصالونات، وهذا ما يؤكد اهتمام العديد من المترددين إلى هذه الأمكنة من طرح قضايا وفلسفة الحداثة وعلاقاتها بالموروثات والتاريخ والتراث والحضارة والثقافية، ودور المثقف العربي في تطوير أدوات التفكير لمعالجة قصاياه الثقافية والفكرية والحضارية والأدبية والاجتماعية والسياسية، وغيرها من القضايا ذات الوقع على البنى المجتمعية المختلفة، وبالتحديد تطوير التعليم وتحديثه في المجتمع، ومن خلال أهداف غير مكتوبة ولا معلنة، مثل: إقامة الندوات والمحاضرات، وتنمية مهارة الحوار في سياق مناقشة القضايا والظواهر المجتمعية المختلفة، وتنمية الوعي بقبول الآخر، ومعرفة طبيعة الأفكار ودورها في بناء المجتمع، مع التأكيد على تنمية الفكر الناقد، من دون إغفال نسج العلاقات الاجتماعية والصداقات بين المرتادين.
والبحرين ليست سباقة في تأسيس هذه المجالس، وتشكيل الصالونات، بل كانت الحواضر ودول المركز هي التي شكلت هذا المنحى التنويوي والنهضوي، إذ برزت في العصر الحديث صالونات كثيرة في مصر، منها على سبيل المثال: صالون مي زيادة – صالون العقاد – صالون أحمد تيمور – صالون محمد حسن عبدالله – صالون المعادي الثقافي الذي أسسه الطبيب وسيم السيسي عام 1990 – صالون عبدالمنعم تليمة – صالون حامد طاهر – صالون علاء الأسواني – صالون أركان الثقافة للشاعرة جيهان حسين – صالون زمرة الثقافي في الإسكندرية – صالون التذوق الثقافي لأميرة مجاهد في الإسكندرية، ويعتبر صالون الشيخ مصطفى عبدالرازق، هذا الصالون الذي يعتبر أول فرع لنادي القلم الدولي، بل كانت مؤتمرات النادي تعقد في بيته، وقد خرجت من هذا الصالون مجموعة من الأفكار والرؤى تكللت بوجود رغبة التخطيط لمستقبل القاهرة الفكري والثقافي، لذلك خرجت منه فكرة تحرير المرأة، ومجلة السفور، وكتاب الأخلاق عن أرسطو الذي كتبه لطفي السيد، وكتاب ثورة الأدب لمحمد حسين هيكل، وكتاب خطرات النفس لمنصور فهمي، وكتاب في الأدب الجاهلي لطه حسين، وكل هذه هزت القاهرة وفجرت مناقشات تعنف وتهدأ، ولكنها في الحالين ممتعة باقية.
أما في صالون العقاد كانت القضايا الأدبية والثقافية والفكرية والتراث، وما ينتجه الآخر الأوروبي هي موضوعات هذا الصالون، ومن تقاليد هذا الصالون أن العقاد لا يتيح فرصة التعرض للمسائل السياسية أو الدينية، ولكنه يرحب بالموضوعات الأدبية والفلسفية والتاريخية والاجتماعية والفنية والعلمية، وقد كتب أنيس منصور كتابًا عن صالون العقاد، تحت عنوان (في صالون العقاد كانت لنا أيام)، مما يدل على أهمية هذه المجالس والمحال التي كانت تعنى بالثقافة والفكر والأدب، حتى أصبح لها دور فاعل في الحراك الثقافي العربي، وليس دورها في إحياء النشاط الثقافي، وإنما في طرح القضايا التي تؤثر على بنية الفكر والعقل العربي، ومدى أهمية هذا في تغيير بعض الأفكار والتوجهات، وغيرها من الصالونات والمجالس التي أسهمت بدور مهم في النهضة العربية بمصر والعالم العربي، بل شهدت هذه الصالونات كما شهدت المقاهي قبلها حركة الشارع وما يتمخض عنه من حوارات ومناقشات وتباينات بين الكتاب والأدباء والمفكرين والأكاديميين حول دور الثقافة والأدب والفن في نهضة الشعوب، وما في مصر كان موجودًا في بعض الدول العربية كالعراق ودول الشام (لبنان وسوريا وفلسطين والأردن).
أما في منطقة الخليج فقد تأسست هذه المجالس ولكن في وقت متأخر عما كان في دول المركز العربية، وربما تأخذ بعض تلك الأهداف التي كانت الصالونات العربية تنشدها وتحققها، لكن ما يلفت النظر أن معظم المناطق الخليجية وتحديدًا في القرى والأرياف والمناطق الزراعية كانت المجالس الاجتماعية منتشرة بصورة كبيرة، وبخاصة في فصل الصيف، إذ يجتمع الرجال في منطقة خارج المنازل، وتحديدًا قربها، وتسمى آنذاك (المعتم)، وهو عبارة عن مساحة مستطيلة في الأغلب، تحدد بجذوع النحيل، ثم تحولت إلى خشب، وعادة ما يكون هذا المكان مفتوحًا من الجهة المقابلة لصدر المكان، الذي يجلس فيه الأكبر سنًا، أو صاحب المكان نفسه، أو الذي يحظى بمكانة اجتماعية بين الأفراد، ويتم فيها الحكايات والقصص الشعبية والفلكلورية، وبعض الأحاديث الاجتماعية، ثم تطور الأمر ليكون المذياع محل اهتمام في هذه الجلسات.
وبحكم المساحة الجغرافية للمملكة العربية السعودية، فإن المجالس فيها كثيرة جدًا، وكانت ولا تزال تحمل أسماء أيام الأسبوع، ومن هذه المجالس مجلس اثنينية عبدالمقصود خوجة في جدة، أو تلك التي برزت في الأحساء، مثل: صالون أحدية الأديب الشيخ أحمد آل مبارك، صالون اثنينية الأستاذ محمد صالح القيم، صالون ثلاثية الشيخ عدنان المغاليق، وفي الرياض خميسية عبدالعزيز أحمد الرفاعي، وصالون الشيخ حمد بن إبراهيم الحقيل، وصالون الشيخ محمد بن عبدالرحيم الحقيل، وأحدية الدكتور راشد المبارك، وصبحوية الشيخ حمد الجاسر، وأحدية الدكتور ماجد عشقي، وثلاثية الدكتور عمر بامجسون، أما الكويت فيطلق على هذه الصالونات (ديوانيات) وهناك منتديات وملتقيات، كلها في المنازل، مثل: ملتقى الثلاثاء الذي أسسه الروائي والقاص طالب الرفاعي، ولايزال نشطًا، بل أنشأ جائزة للقصة العربية القصيرة وحظيت بانتشار عربي واسع. وفي دولة قطر ظهر صالون كتارا، وصالون المقهى الثقافي، وصالون الثقافة الذي يقام في المكتبة الوطنية، وهناك مجالس لأفراد من المجتمع القطري، مثل: مجلس للدكتور محمد كافود، وآخر للدكتور علي الكواري، ومجلس للدكتور حمد الكواري، وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، تأسس صالون الملتقى الأدبي، وصالون المنتدى الثقافي، والصالون الروسي، ونادي أصدقاء نوبل، مجلس العويس، ومجلس الماجد، ومجلس عيسى عبدالله المانع، ومثلها في سلطنة عمان هذا البلد الممتد عبر الجبال والوديان والسهول، وبين البحر واليابسة، لا شك أن مجالس الرجال كانت منتشرة بين الولايات والمحافظات والمناطق، كما في مملكة البحرين تلك المجالس التي تشكلت مع الإنسان بعد أن استقر علي أرض زراعية أو قرب البحر، هكذا عاش الإنسان العربي ضمن تكوين المكان، ومع كل التحولات التي كانت تطرأ عليه.