محمود درويش وسميح القاسم في مهرجان الشباب 1968
“في ردهة أحد المسارح الكبرى في صوفيا، (أواخر يوليو عام 1968) كان الأديب المصري يوسف السباعي يبحث بلهفة عن شخصٍ ما. ليلة الشعر العربي المقامة في ذلك المسرح، كانت إحدى الفعاليات المصاحبة للمهرجان الدولي السابع للشبيبة والطلبة الذي استضافته عاصمة بلغاريا تلك السنة. كان يبحث بالتحديد عن شاعرٍ شابٍ قادم من فلسطين المحتلة، ذاع صيته في العالم العربي آنذاك. عندما إلتقاه تفاجأ بشدة بنحول الشاب الحليق الواقف أمامه: (أنت محمود درويش؟ ظننت أنك سمين ولديك شارب!)”.
بهذا المشهد تستهل مها نصار الفصل الأخير من كتابها (إخوة متباعدون: مواطنو «إسرائيل» الفلسطينيون والعالم العربي) ، والذي سلطت الضوء فيه على ملابسات مشاركة محمود درويش وسميح القاسم ضمن وفد شبيبة الحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح) في ذلك المهرجان، والتعقيدات المصاحبة لاستقبالهم هناك من قبل الوفود العربية.
على النقيض من لهفة يوسف السباعي للقاء محمود درويش، كان هناك موقف رافض من قبل بعض الوفود العربية، خاصة الوفد السوري الرسمي، الذي منع أعضائه من الاتصال بأي شخص من “الوفد الصهيوني” – حسب تعبيرهم – بما في ذلك الشاعرين سميح القاسم ومحمود درويش. وصل الأمر إلى درجة “أن بعض المندوبين السوريين وزعوا منشورات تزعم بأن الرجلين في المهرجان كانا في حقيقة الأمر عملاء للموساد، أرسلا لانتحال شخصية الشعراء الحقيقيين الذين تمّ حبسهم في سجن إسرائيلي”. ساهمت بعض الصحف العربية أيضاً في حملة الإدانة والتشويه، عبر ترويج شائعة أن الشاعرين سارا تحت راية العلم الإسرائيلي في المهرجان، كما تمّ التشهير بهما على أساس أنهما سافرا إلى المهرجان بجواز سفر إسرائيلي.
تقول مها نصار بأن الموقفين المتناقضين (يوسف السباعي مقابل الوفد السوري) “يعكسان الغموض الذي أحاط بالموقف تجاه الفلسطينيين في إسرائيل، وخاصة شعراء المقاومة، في المخيال السياسي العربي بعد حرب يونيو 1967”. من جهة هناك أقصى درجات الحب والإعجاب، ومن جهة أخرى أقصى درجات الكراهية والتخوين. هذا الشدّ والجذب بين الحب والتبجيل من جهة، والتخوين والكراهية من جهة أخرى، جعل من بطولة شعراء المقاومة القادمين من الأرض المحتلة آنذاك أمراً شائكاً بالفعل.
تبين الباحثة بأن “قصائد شعراء المقاومة قد برهنت على أن الهوية الوطنية الفلسطينية قادرة على الصمود حتى بعد عقدين من المحاولات الإسرائيلية للمحو، بل ويمكنها أن تظهر تحديّاً أكثر من ذي قبل. نتيجة لذلك، احتفل بهم المشهد الثقافي العربي كعلامة أمل، وسط يأس الهزيمة بعد نكسة 1967”. لعب أدباء كبار دوراً هاماً في التعريف بشعراء المقاومة، في طليعتهم غسان كنفاني في كتابه “أدب المقاومة”، ولاحقاً كتاب رجاء النقاش عن “محمود درويش” . بيد أن “البروز المتزايد لشعراء المقاومة أدى أيضا إلى مناقشات وجدل حاد في الأوساط الفكرية العربية بشأن تعريف أدب المقاومة الفلسطينية..”. فالبعض إعتبرهم شعراء “معارضة” وليسوا “مقاومة” (أدونيس)، وأن المقاومة ترتبط بالضرورة بالكفاح المسلح فقط، كما رأى البعض الآخر أن أدب المقاومة لا يمكن إلا أن يكون خارج الوطن المحتل (غالي شكري) . كان هناك جهل للظروف التي كان الفلسطينيين بالداخل يرزحون تحتها، ونضالهم ضد مصادرة الأراضي، ومحو الهوية الفلسطينيية تماماً. ترافق مع هذا الجهل غموض والتباس في مفهومي المقاومة والمعارضة، والفرق بينهما.
بالإضافة إلى هذا الجدل الفكري والثقافي، كان هناك جدل سياسي حاد، أثر على الكيفية التي تمّ بها التعاطي مع شعراء المقاومة. إذ كما تشير الباحثة فإن جزءاً كبيراً من حالة اللغط التي أحاطت بالعلاقة مع الشاعرين في مهرجان صوفيا، ترجع ليس لكونهم من فلسطينيي الداخل، بل لعضويتهم في وفد شبيبة الحزب الشيوعي الاسرائيلي (راكاح)، وتصف الوضع بقولها: “من ناحية، وافق الحزب على الموقف الذي تبناه جميع العرب في معارضة الهجمات الإسرائيلية بشدة خلال حرب عام 1967 واحتلالها للأراضي العربية. ولكن من ناحية أخرى، لم يعتمد حزب “راكاح” ولا شعراء المقاومة بالكامل منطق إنهاء احتلال اسرائيل لفلسطين وفق نصوص الميثاق الوطني الفلسطيني (الذي تمّ تعديله قبل أقل من أسبوعين من مؤتمر صوفيا للشباب والطلبة الذي حضره درويش والقاسم). كانت دعوة الميثاق إلى الكفاح المسلح باعتبارها الطريقة الوحيدة لتحرير فلسطين (المادة 9)، وإعلانه بأن اليهود يشكلون مجموعة دينية و ليسوا مجموعة وطنية (المادة 20) تتعارض مع كيفية فهم قادة حزب “راكاح” للصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين “حيث كانوا يأملون في دولة ديمقراطية يتعايش فيها اليهود والفلسطينيين بدون صهيونية.
ضمن هذا السياق المشحون سياسياً بمواقف متناقضة واستقطابات حادة، أتت مشاركة الشاعرين محمود درويش وسميح القاسم في المهرجان الدولي السابع للشباب والطلاب، الذي عقد في صوفيا في الفترة من 26 يوليو إلى 6 أغسطس 1968، “لتشكّل نقطة تحوّل في العلاقة بين الفلسطينيين في إسرائيل والفلسطينيين في المنفى والعالم العربي”، حسب تعبير الباحثة. ويمكن القول بأن تلك المشاركة أثرت عميقا في وجدان الشاعرين، فقد كانت السفرة الأولى لهما خارج الوطن المحتل، إلا أنها كانت لسوء الحظ مشوبة بسموم الإشاعة التي طاردتهم لعقود لاحقة، وستكون تداعياتها عميقة الأثر خاصة على محمود درويش كما سنرى لاحقاً.
تجدر الإشارة الى أن الاتحاد السوفيتي وبلغاريا قد قطعا علاقاتهما الدبلوماسية مع اسرائيل في أعقاب حرب 1967، الأمر الذي دعا اللجنة التحضيرية للمهرجان إلى رفض دعوة أي وفد رسمي إسرائيلي يدعم تلك الحرب، باستثناء دعوة الحزب الشيوعي الاسرائيلي (راكاح) الذي عارض الحرب منذ البداية، واستمر في دعوة إسرائيل إلى الانسحاب من الأراضي المحتلة.
سنقرأ بعض تفاصيل مشاركة شبيبة راكاح كما وردت في جريدة الاتحاد في عدد 2 أغسطس 1968: “عندما دخل الوفد ساحة مدرج لبسكي في العاصمة البلغارية، جوبه بمزيج متناقض من ردود الفعل: بعض أعضاء الوفد الفلسطيني هتفوا ضده ” تسقط الصهيونية”، بينما عندما مرّ الوفد أمام وفدي الأردن واليمن الجنوبي، قوبلوا بالتصفيق الحاد وبهتافات تعبر عن الاحترام لقوى السلم في إسرائيل” حسب تعبير الجريدة. في سنوات لاحقة سيكتب سميح القاسم كيف أنه ومحمود درويش قررا السير على مسافةٍ ما، خلف الوفد خلال الموكب الافتتاحي، حتى لا يضطرا للسير خلف العلم الإسرائيلي. كما قررا أيضا طي وثني السترات الرسمية لشبيبة “راكاح” على ساعديهما، لإخفاء شعار الحزب.
الطلبة العرب الدارسون في صوفيا آنذاك احتفوا بحرارة بمقدم الشاعرين من الأراضي المحتلة، وتشير الباحثة إلى “لقاءات سرية نظمها بعض الطلبة العرب في صوفيا للاحتفاء بالشاعرين (سميح القاسم ومحمود درويش) تمّت في سكن الطلبة الجامعي”، كما تحكي عن “لقاء سري جمع درويش والقاسم مع الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري. فقد ذهب الشاعران في صباح أحد الأيام وفاجأا الجواهري في غرفته بالفندق وإلتقطا صورة معه. “بعد التقاط الصورة، كان لدى الجواهري طلب واحد: ألا ينشروا الصورة، خشية أن تثير الشكوك في الجهاز الأمني في العراق.”
تفاوتت ردود الأفعال تجاه الشاعرين بعد مهرجان صوفيا، ما بين جهات مؤيدة، وأخرى تدين الشاعرين (درويش والقاسم). من اللافت للنظر موقف عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية أحمد صدقي الدجاني في مقالة نشرها في صحيفة الجمهورية بالقاهرة آنذاك: “ليست هناك حاجة إلى التسرع في إدانة بطل عربي لمجرد أنه يحمل جواز سفر إسرائيلي تمّ فرضه عليه، طالما أن هذا العربي يؤمن ويعمل من أجل تحرير أرضه. بعد كل شيء، تمّ فرض جواز السفر الإيطالي على ليبيا لبعض الوقت، وأجبر جواز السفر الفرنسي على الجزائر لبعض الوقت. زاد هذا الفرض فقط من تصميم المقاتلين أثناء قتالهم أثناء حمل جوازات سفر العدو.”
في حقيقة الأمر سنرى أن حالة الالتباس في فهم وضع الفلسطينين بالداخل لم تكن مقتصرة على من هم بالخارج، بل كانت تؤرق العديد من فلسطيني الداخل أنفسهم، و جعلتهم في مأزق شائك: هل يقارنون فعلاً وضعهم بالشعوب المستعمرة بالجزائر وليبيا مثلا، والتي انتهي حالها بطرد المستعمر نهائياً واحراز الاستقلال الوطني؟ (الأمر الذي كان سيعني وقوفهما مع مواقف منظمة التحرير الفلسطينيية وتجريمهما من قبل السلطات الاسرائيلية)، أم سيصرون على رهانهم المستقبلي في التعايش بين اليهود والفلسطينيين ضمن دولة إسرائيل والتعامل مع نضالهم ضد “الصهيونية”، كما يتعامل رفاقهم في بقية الدول العربية مع “الرجعية العربية”، أي بتقسيم عملية النضال إلى مراحل يتمّ التدرج فيها من واحدة إلى أخرى؟ الأمر الذي سيجعل من نضالهم السياسي بداخل إسرائيل شرعيّاً طالما عملوا مع رفاقهم اليهود، ولكن سيعزلهم ويفصلهم عن نضالات الخارج تماماً. لم تكن الخيارات هنا ترفاً فكرياً، بل مسألة ذات تأثير عميق في هوية الشاعر والأديب ولها استحقاقات مصيرية ستؤدي إما الى البقاء داخل إسرائيل أو مغادرتها نهائياً.
صحيح أن الحجة الداعية الى استمرار البقاء في فلسطين المحتلة كانت ترتكز على أن الصمود هو شكل من المقاومة، إلا أنه على الرغم من ترابط هذين التعبيرين (صمود – مقاومة) إلا إنهما ليسا متطابقين في المستوى والمعنى دائماً. سيدرك البعض أن فعل المقاومة يتطلب القيام بشئ يتجاوز مجرد البقاء في الوطن (الصمود). ربما كان شئ من هذا القبيل يختمر في ذهن الشاعر الشاب محمود درويش وهو يقف وسط العمارات السكنية ذات العشر طوابق، والتي كانت تأوي مندوبي المهرجان في ضواحي صوفيا، كل عمارة استوعبت أربعة وفود: إحداها ضمت وفود فلسطين والأردن بالاضافة الى المكسيك وبنما وكولومبيا، بينما لم يشترك أي وفد عربي في العمارة التي ضمّت الوفد الإسرائيلي. كما ذكر درويش لاحقاً، لخص هذا التقسيم المكاني كافة التناقضات في حياته: “ماذا يعني الوقوف في صوفيا بين مبنيين، أحدهما يرفع العلم الفلسطيني والآخر الإسرائيلي؟ وهل أنت قادر على تجسيد الروح الفلسطينية تحت العلم الإسرائيلي؟ أو: هل يمكنك أن تكون شيئاً وعكسه في نفس الوقت؟ وما وراء كل ذلك، من أنت؟”.