الأسرار الوجودية والإشراقات الصوفية في أعمال رسمي الخفاجي

0
17

فجاة ودون أي أنطباع مسبق تأخذك أعمال رسمي الخفاجي المميزة بثنائيات الابيض والاسود إلى عالم داخل روحك وخارجها، أي خارج سفوح الزمان والمكان لتمتد بالأبعاد الأربعة في رحلة كونية لا أجرؤ على وصفها بالغموض إنما بسلال الأسئلة والمجاهيل البعيدة للروح الإنسانية التي تفلت من سلطة العقل لترتبط بسلطة الروح والكون السخيتين تاركاً الباب موارباً للإحتمالات والأجوبة القافزة على  قيود النظريات الفنية لتنطلق إلى مدى فلسفي صوفي علمي أرحب..

ربما بحزمة من الإشعاع الخفي لعقله الباطن وتصوراته الخفية  ومن خلال التمعن والتأمل بأي عمل خضع لرؤيته الفذة وعينه الخفية مستخدما اللون الأسود وتاركاً لبياض الورق أن يساهم معه في تشكيل رؤاه كأنه يرسم طالع الوجود وأسراره في إيحاء مبهم، ربما من مجهول إلى لحظة هروب العقل إلى جهة مجهولة اسمها الخيال المزدحم بالرؤى والصور والمتاهات العجيبة وهي تضع خالق الإبداع الثري بالمعرفة مندهشاً أمام وجوده المشحون بطاقات جمالية يعثر عليها الرسام وهو يتأمل الابعاد القائمة والمسطحة للكون من رؤى العيون الخفية للروح المرتبطة بالكون بخيوط هلامية تفسح لها المجال للتحرر والتيه  في هذا المدى المحيّر، وربما  استمدّ من هيجل وعمق نظرته المادية المثالية للوجود وصراع أو فناء التناقضات  أو ولادتها والتي امتدت لتشمل ما جاءت به العلوم الحديثة من نظريات كمومية وشحنة الفراغ وطاقته الهائلة من الأسود أمام الضوء إلى الحد الذي يجعل من طاقة  الفراغ مهما كانت بسيطة في مقارنتها مع سعة ما حولها بالتمدد وخلق أكوان جديدة .

استطاع الخفاجي أن يخلق أكوانه الخاصة، ويمنحها أسراره الوجودية وقلقه ومحنة الانسان المعاصر وهو يقف ممزقاً بين كل التناقضات والثنائيات التي يغرق بها عالمنا من ظلم ومحن وأوجاع وقسوة وحروب ودماء وهيمنة منطق القوة كأنّ خلفها تقف أرواح شريرة استمرأت مناظر الدماء والقسوة، والتي هرب من ترويعها الخفاجي إلى الأبيض والأسود محاولاً الإمساك بلحظة وجوده العابرة والتي لا أظنّها عابرة بعد أن خلّدها بهذه الروائع .

إن جماليات الأبيض والأسود وإيحاءاته هي العودة بشكل لا إرادي إلى لحظة البدء الأول والخلق الأول إلى فجر البدايات وسحرها قبل أن تداهم الإنسان فكرة الضوء متحللاً إلى ألوانه السبعة التي أشارت إلى المآسي بقدر إشارتها إلى الجماليات، فمن غموض الفناء وانطفاء شعلة الحياة متمثلاً بالأزرق أو البنفسجي أو الأحمر أو الأصفر  في سديم الفراغ المظلم إلى وحشية الألوان وهي تستعرض الحياة بشتى صورها  الحيوية ومخلوقاتها، إلى عناد الأشجار  وحياديتها وهي تعبر عن حضورها  الخالد إلى غدر البحار بالإنسان وهو يصارع للوصول إلى ساحل آمن يحفظ كرامته ويمجد الحياة التي انتهكتها الحروب والمجاعات. صلة رسمي الخفاجي بالإنسان وأوجاعه تكاد تكون صوفية تجسدت بلوحات نفيسة، ومن الندرة والابتكار أنه عمد إلى الإستفادة من حركة العلم وجعل لوحاته تتحرك وتخرج ناطقة يقف خلفها تاريخ من مخزون ثقافي وإبداعي تحمله جيناته الأصيلة والتي تعود به إلى حضارة نهضت بالبشرية وأعطتها البذور الأولى من هناك،  من سومر إلى دلمون العجيبة،  جنّة البدايات وسحرها من تلك الربى والسهوب الخضراء تغذّت ذاكرة رسمي الخفاجي بالأوجاع والمسرّات والأسئلة والشتات الذي حاك منه الخفاجي رداء إبداعه الوثير منطوياً على ذلك الإرث النفيس وخارجاً بأبهة التاريخ والحضارة بأسلوب جديد تميّز به عن أقرانه وأعطاه الهوية الكونية والخلود  عبر قراءات ستظلّ أجيال بعيدة تحتفظ بفسحة الجمال والقلق التي بثتها روحه المتصوفة بإشراقاتها التي تمسّ نوافذ الخير في الإنسان، ذلك الخير الذي يتجسد في حب الطبيعة  وخوف الإنسان على أخيه الإنسان برسالة وشفرات تشرق بداخل من يرى ويتمعن في تلك المساحات الجنائنية من الأبيض والأسود، كمن يفصح عن لون اللؤلؤ ورقّته في ظلمة البحر وجنونه،  هو الذي حمل صخرة وجوده رواقياً سيزفياً عراقياً عربياً  كونياً خالصاً.