الفَقِيدُ الهَارِب

0
32

كان إعلانا صغير الحجم، ذلك الذي ألصق بالقرب من إعلان لشركة مشروبات غازية، وكان الصغير الذي أطال التأمل فيهما قد ظنهما إعلانا واحدا، وهو ما جعل شرطي الأمن يوقف سيارته؛ ليسأله إن كان رأى الشخص المطلوب داخل الإعلان أم لا، “سيدي هل مشروب (مطلوب حالا) يباع عند بقالة بيتكم؟ فهو غير موجود هنا”، كان الصغير هو من ابتدأ الشرطي بالسؤال لا العكس، اقتلع شرطي الأمن الإعلانين معا وغادر بسيارته.

لقد مر ثلاثون عاما منذ أن هرب ميت من مقبرة ما، يقول حارس المقبرة (الحاج يونس): إن الموتى يستيقظون أحيانا؛ فهو يسمع أحاديثهم عند جولات حراسته الثلاث؛ لكنه لم يسمع أحدا يتحدث عن الهرب، كان يظن أن الرواية المتداولة قبل ثلاثين عاما ليست سوى خرافة، ولما حفر قبرا له قبل يومين- وهو سلوك شائع بين المؤمنين- قال: “عندما أموت، ادفنوني هنا، لا أريد الهرب، ولا الاستيقاظ، أريد فقط أن أموت”، ولذلك قبره منزو بعيدا عنهم؛ كي لا يحظى بالحديث مع أحد.

كان ذوو الفقيد الهارب قد تكتموا على الموضوع، ومع ذلك كانت الشائعات قد أخذت بالانتشار بين أهل القرية، لاسيما عند تلك البيوت المحاذية للمقبرة؛ كبيت (إبراهيم الأجعد)، وهو رجل عجوز قصير القامة، له أنف طويل مدبب، في صباه كان يملك شعرا مجعدا وأشعث، وسخا وقذرا، حتى إن مياه العين نفسها- رغم كثرة وروده إليها- لم تفلح في تنظيفه، وهو ما جعل الناس تطلق عليه لقب الأجعد حينها، أما اليوم فهذا الرجل العجوز صاحب الظهر المحدودب مثل قوس روبن هود قد غزا الصلع رأسه منذ زمن بعيد، ولم يعد يمتلك شعرة واحدة؛ لكن هذا لم يوقف أهل القرية عن وصفهم له بالأجعد، وطغت هذه التسمية حتى على لقب عائلته الذي لا يذكره أحد سواه. كان إبراهيم ضعيف السمع قليلا، وضعيف البصر بشكل أكبر، إلى درجة أنه يعجز عن قراءة أية مخطوطة مهما قربتها ورفعتها عند وجهه، ومن أجل ذلك إنما استهجن الناس روايته، وضحكوا منه أيما ضحك، وسخروا منه وأهانوه أيما إهانة، عندما وقف وسط المقهى العتيق في القرية، ممسكا بملعقة حديدية صغيرة ضاربا بها كأس الشاي الزجاجي؛ مخرجا صوتا يشبه الجرس؛ راغبا في صرف الأنظار ناحيته، وهي عادة دأب الحكواتي القديم للقرية على استعمالها، فكان يضرب الملعقة بكأسه مرة إلى خمس مرات؛ حتى إذا ما تيقن أنه كسب انتباه الجميع، شرب ما تبقى من الشاي في الكأس، وراح يحكي حكايته العجيبة لرواد المقهى المتعطشين إلى عذوبة حديثه وأسلوبه الفاتن الذي يغشاهم كالسحر، فيسود الصمت المكان، ولا ينبس أحد ببنت شفة، ولا تسمع حينها إلا صرير الجدجديات (صرار الليل)، وخرير الماء في بساتين القرية، وصوت الحكواتي الراحل.

على النقيض تماما كان (إبراهيم الأجعد)، قد احتاج إلى أكثر من إحدى عشرة ضربة حتى انصرفت أنظار الناس إليه، لا فضولا ولا احتراما، فقد خسر احترام الناس منذ زمن بعيد، ولا يتذكر متى كانت آخر مرة تلك التي عامله فيها الآخرون بلطف وأدب، أو أشفقوا على بياض لحيته وكهولته، إنما انشد الناس إليه بسبب تلك الضربات للكأس التي أعادت إليهم الذكريات اللطيفة للحكواتي الراحل، حول نظره ناحيتهم، وعندما تيقن فعلا من أنه صار في دائرة انتباههم، تملكه الغرور لوقت قصير جدا، وشعر أنه يملكهم للحظات، وبيده أن يغويهم إن هو شاء، بيده أن يكذب أو يصدق، يتحدث أو يصمت، يسترسل أو لا يفعل؛ لكن ما لبث أن تبخر كل ذلك الزهو والغرور عندما أطلق شاب عشريني ضحكات ساخرة في المكان، وهو يقلد ضربات إبراهيم لكأس الشاي، فتعززت ثقة الأجعد من جديد، صار جبينه يتصبب عرقا من شدة الخجل، وجه نظره ناحية الأرض، وهو يتلعثم بكلام غير مفهوم، كأنه يراجع قصته عن طريق سردها لنفسه جهرا؛ لكن حتى هو نفسه لم يع ما كان يقول، قرر إغماض عينيه كي لا يضطر إلى مواجهة نظراتهم الساخرة حينما يبدأ، صنع ابتسامة مزيفة وغير حقيقية، أعادت إليه هذه الابتسامة الكاذبة بعض الثقة المتبخرة، وإن كان بنسبة ضئيلة، صمت ثواني معدودة، وقبل أن يتجاهلوه من جديد، بدأ الكلام: “أيها الناس.. بالأمس، خلف بيتي تماما، وبينما كنت في طريقي إلى المقهى، تسلق ميت سور المقبرة، وهم بالركض مسرعا حتى اختفى”. ارتجف بشدة، ثم تذكر أنه لم يشرب الشاي قبل أن يبدأ الكلام مثل الحكواتي الراحل..

شرب الشاي، وواصل حديثه متقطعا ومرتجفا: “أقسم لكم؛ لقد رأيت كفنا برجلين يتسلق السور، ويركض هاربا دون أن يراه أحد”. كان ذلك أول تشبيه بلاغي يستعمله إبراهيم في حياته، وهو أبعد ما يكون عن ذلك، فأقصى قدراته المتاحة كانت هي قول الحقيقة، ناهيك عن الإضافات البلاغية التي لا يفقه فيها شيئا، كل ما في الأمر أنه وصف المشهد كما رآه “كفن برجلين”. أراد إبراهيم مواصلة الحديث؛ لكن السباب والشتم سيطر على المكان، ثم تطايرت الأحذية والقاذورات وحتى البيض والطماطم، وكل ما يمكن حمله كان يطير ويصطدم بوجه المسكين الهرم، حتى غطت الدماء جسده بالكامل، وإن لم يكن قد مات في تلك الليلة فإن السبب وراء ذلك كله هو تدخل (الحاج يونس) حارس المقبرة، وأمره الناس بالرفق بالكهل العاجز، والتوقف عن سبه وإهانته، ثم ها هو يبالغ في تلطفه وترفقه أشد مبالغة، فيأخذ بيد (الأجعد) الآثم، ويوصله إلى بيته. ولتلك الشفقة البسيطة إنما راح الناس يتناقلون تلك الرواية معتقدين أنها تميل إلى الحقيقة.

إن لمقبرة القرية مكانتها الفريدة بين مقابر البلد، بوصفها مقبرة أصيلة عريقة متمسكة بالتاريخ والتقاليد، حتى إن الناس خارج القرية -بل خارج البلد- صاروا يوصون أهلهم بالدفن فيها، فما هي إلا سنوات قليلة حتى أصبح الحصول على قبر في هذه المقبرة أشبه بالحلم، وفي العام الماضي أعلن (الحاج يونس) عن أن المقبرة وصلت إلى الحد الأقصى، ولم يكن في وسعها استقبال مزيد من الموتى.

فما الذي حدث؟ ومن أين لأحد هذه الجرأة في ضرب الأعراف بالحائط، وتلطيخ سمعة القرية وتشويهها هذا التشويه؟ وكيف لميت أن يفكر مجرد التفكير في هجر قبره، والركض هربا؟! يا للعار! من عساه يهرب وهو يملك ما يملك من نعيم؟! من عساه يعارض القيمة المقدسة للموت، ويهرب إلى الحياة مثل اللصوص العصاة؟! يا للعار الذي لحق بهذه القرية المسكينة‼

مع أن اليوم ليس يوم عطلة، ولا حتى يوما معهودا لزيارة المقبرة؛ إلا أن الناس قد اصطفوا منذ الصباح في طوابير عريضة منتظرين دورهم للدخول إلى المقبرة، والتفرج على القبر المفتوح للفقيد الهارب، احتاج (الحاج يونس) لأن يغلق المقبرة أسبوعا كاملا؛ كي تهدأ تلك الضجة حول المقبرة التي يحرسها بعد رواية (إبراهيم الأجعد) في المقهى؛ لكن ما حدث كان العكس تماما، بدأ الناس بتناقل الفضيحة بينهم، وأخذت الجهات الإخبارية والصحف المحلية والخارجية تبث الخبر طوال الأسبوع الماضي، وهو ما دفع الشرطة إلى إجراء تحقيق رسمي، وتوزيع الملصقات بغية القبض على الفقيد الهارب صاحب الكفن ذي الرجلين.. لم يتعرفوا إلى هويته بالطبع؛ لكن الملصق كان يحوي رسما تقريبيا لشخص داخل كفن يركض هاربا.

كانت التكهنات لا تتوقف، وكل عائلة تتهم الأخرى بأن فقيدها هو الذي هرب، وجلب الفضيحة للقرية، وعائلة أخرى تقسم بأن الفقيد ليس منها، بل من عائلة فلان وفلان، لذا ها هم الناس قد اجتمعوا بهذا العدد المهيب والمخيف منقادين إلى الفضول كانقياد الجند لقائدهم، لقد أرق الفضول مضاجعهم، وسلب راحتهم وسكينتهم، وصارت القرية -التي لم يسبق أن دخلها تلفاز قط- خبرا رئيسا في تلفاز الآخرين بالخارج، وتعرف أهل القرية إلى آلة التصوير (الكاميرا) للمرة الأولى، من يا ترى الميت الهارب، امرأة أم رجل؟ هل هو حقا من خارج القرية أم من خارج البلد؟ ذلك أن التفكير السائد حينها أنه يستحيل على من ينتمي إلى قريتنا أن يقوم بفعل كهذا الفعل، “هذا ليس من شيمنا” قال أحد كبار السن معللا، وتابع مسن آخر مؤكدا: “بلا شك.. الأرجح أنه من خارج البلد حقا”، هذا ما اخترعه الناس، ثم صدقوه.

يبدو أن (الحاج يونس) ما زال عازما على عدم فتح الباب في ذلك اليوم، عنيد ومتشبث برأيه، غير مكترث بكل أولئك الألوف في الخارج، وهو ما أدى بالناس إلى الجنون ونفاد صبرهم، تعاونوا مع بعضهم بعضا، وفي المحاولة الرابعة سقط الباب أرضا، تدافع الناس فوقه كالسيل، ومن فقد توازنه وسقط في ذلك اليوم صار مداسا للأحذية والأقدام، صاروا يركضون فوق بعضهم بعضا، حلت الفوضى في المكان، وعندما قطعوا مقدمة المقبرة ووصلوا إلى القبر الأول، دوى صمت هائل في المكان، وخرست الألسن عن النطق لهول المشهد ورعبه، وتساقطت بعض النسوة إغماء وفزعا مما يرين، وصار أهل القرية يشيحون بوجوههم خجلا وحزنا عن قبور أحبتهم، يا لهذه الصدمة! ويا لهذا العار الذي لا تغسله بحار الدنيا كلها! تحولت الفوضى إلى مأتم شجون وبكاء، كانت جميع القبور مفتوحة، وكان الموتى قد هربوا جميعا، عدا صاحب القبر الطري المنزوي بعيدا، والذي أغلق للتو، صاح أحدهم: “إنه قبر (الحاج يونس)، فتح القبور جميعها ونزل إلى قبره”.