“عشقُ سرّي” .. حكاية إينيسّا ولينين

0
58

رواية جديرة بالقراءة للإطلاع على كل ما هو جديد من الأخبار والروايات عن الثورة البلشفية، ثورة أكتوبر ١٩١٧ للصحفية والروائية الإيطالية ريتانّا أرميني. الصفحات الثلاثمائة من هذه الرواية تنصبّ وبشكل مكثف على حياة إينيسّا وعلاقتها بلينين من جانبين، النضالي والعاطفي، فقد كانت رسالتها في هذه الرواية واضحة للقارئ، البحث والتنقيب عن المجهول في التاريخ لتظهره إلى العالم بعد أن فُتح أرشيف الثورة في العام 1992 بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي، واكتشاف رسالة لم يسبق لأحد أن اطّلع عليها أبداً، لأنها كانت مخفية في علبة، وهي رسالة حبّ كتبتها إنيسّا أرماند للينين في كانون الثاني 1914.

تتبع الكاتبة هذه العلاقة من خلال البحث والتقصي في أرشيف ثورة أكتوبر، إذ قرأت كثيراً عن هذه المناضلة المنسية أو المحذوف بعضاً من سيرتها من أرشيف تلك الثورة، فأخذت على عاتقها تتبع سيرتها والأماكن التي التقت فيها بلينين في فرنسا، سويسرا، روسيا. الشىء الأهم في هذه الرواية هو القاء الضوء على ثورة أكتوبر بتتبعها للأحداث قبل وبعد الثورة حتى وفاة إينيسّا أرماند في العام 1922 وموت لينين، واستلام ستالين السلطة في العام 1924.

أسلوب الرواية بسيط وجميل يلقي الضوء على نضال المرأة وتحريرها وعلاقتها بالحزب ودورها في انتصار ثورة أكتوبر، فبالإضافة إلى التركيز على إنيسّا كان هناك أليكساندرا كولونتاي، أنجليليكا بالابانوف، روزا لوكسمبرغ، كلارا زيتكين، ناديا كروبسكايا، إيليزافيتا تيستروفا والدة ناديا زوجة لينين، كونكورديا سامويلوفا، ليليانا زينوفيفا، لودميلا ستال وهن رائدات المناداة بتحرير المرأة في روسيا، وقد القي القبض عليهن من قبل رجال الدرك القيصري وسُجنّ بسبب نشاطهن السياسي.

أصبحت إنيسّا المرأة الأكثر نفوداً وتأثيراً في روسيا الثورية  بشهادة العديد من المؤرخين وفي السنوات الثلاث التي تلت الثورة من أهم الشخصيات التي ساهمت في تأسيس الاشتراكية بروسيا، “بل كانت من أهم أعضاء مجموعة النساء والرجال الذين غيرّوا مجرى التاريخ” واستحقت أنّ تحظى بذلك نظراً للأدوار العديدة التي قامت بها في سبيل انتصار الثورة البلشفية والدور الكبير الذي لعبته في تحرير المرأة واعتماد قرارات مهمة مثل: الاعتراف بمشروعية الزواج المدني، ضمان حق المرأة في الاحتفاظ بلقبها العائلي بعد الزواج، ثم منح الأبناء المولودين خارج إطار مؤسسة الزواج كافة حقوقهم مثلهم في هذا مثل بقية الأبناء الشرعيين. كانت تقول “إذا لم يتمّ التخلّص من كافّة الأشكال التقليدية التي تقّيد العائلة الروسية وحياتها المنزلية وطريقتها في تربية الأجيال فإنه لا يمكن لأحد أن يعطي للوجود إنساناً جديدًا، ولا يمكن بالتالي بناء المجتمع الاشتراكي”.

فانيسّا لديها التزام كلي بقضايا النساء فكافحت من أجلهنّ سواء من خلال رئاستها لجريدة (الخبر) وجريدة (المرأة العاملة) وإدارتها لمجلس موسكو الاقتصادي، وعضويتها في مجلس الدوما، وبعد ذلك أختيرت مندوبة في المؤتم السادس للحزب، فقد كانت امرأة مستقلّة وثورية والتجارب نقلتها من حياة موسكو البورجوازية إلى مجتمع الثورة. كانت تهتمُّ بأبناء الفلاّحين حتى أنها قامت ببناء مدرسة خاصة بهم في قرية إيلديجينو، حيث كانت سيدة غنية وزوجة لصاحب أشهر وأكبر مصنع غزل ونسيج في روسيا، إضافة إلى اهتمامها بالأقليات الروسية المهاجرة إلى فرنسا والمقيمة في باريس.

إنيسّا تلك المرأة المنحدرة من عائلة برجوازية غنية انخرطت في النضال الثوري مع لينين وذاقت الاعتقال والنفي لأكثر من مرة على الرغم من إنها كانت متزوجة ولديها خمسة أطفال. كانت ثرية، ولكنها لم تخش الفقر، حتى أنّها ماتت فقيرة جداً، كانت زوجة طيّبة لكنها في الوقت ذاته كانت تدافع عن أهمّية اختيار المرأة لشريك حياتها. اسمها الشخصي هو إليزابيث وهي ابنة ابوين من عالم المسرح، والدها مغنّي الأوبرا ثيودور ستيفان ووالدتُها المُمثلة نتالي وايلد. وُلدت إينيسّا في باريس وانتقلت بعد سنوات قليلة من ولادتها إلى العيش في روسيا مع جدتها وخالتها.

تتحدث أربع لغات، الفرنسية والانجليزية والروسية والألمانية وهي قارئة نهمة، وبارعة في عزف البيانو، ذات شخصية قوية ومتميزة، مهتمة بالتاريخ والفلسفة، مهتمة بالأدب الروسي ورموزه مثل نيكراسوف، دوستويفسكي، تولستوي وشيرنيتشيفسكي، الا أنّ تولستوي يبقى كاتبها المفضل.

في مرحلة النضال ضد الحكم المطلق للقيصر القي القبض عليها وهي تهمّ بتنظيم الاجتماعات والحلقات التعبوية من أجل التعريف بأفكار زعماء الثورة في المنفى عبر توزيعها الكتب والمنشورات التي كانت قد هربتها من سويسرا ، فقد كانت مسؤولة الحزب الأولى في مقاطعة ليفرتوفو بموسكو، وعلى الرغم من الفترات الأليمة التي مرت بها، لكنها  “ظفرت بأشياء أجمل وأقوى، أشياء لم تكن تمنحها لها سوى سنوات النضال الثوري”، فقد كانت من أكثر البلشفيات حماسة وذكاء “لذا فأمر طبيعي أن يلتفّ وبشكل سريع كل أعضاء المجموعات الباريسية الأخرى المساهمة في الحزب حولها”، حيث كانت تهتم بالمراسلات مع الفروع المهجرية الأخرى فإتقانها للغّتين الإنجليزية والألمانية أهّلها لادارة قسم المراسلات والعلاقات الخارجية، كما تفرغت أيضاً لإدارة الشؤون الخاصّة بالاشتراكيين الديمقراطيين الأوربيين بحكم معرفتها اللغة الفرنسية وإجادتها بشكل أفضل من لغة العديد من المهاجرين ومن لغة لينين نفسه.

كما إنها باتت تتصدى لأكثر المشاكل السياسية تعقيدًا من خلال تنفيذها وبشكل صارم السياسات التي اتبعها لينين في تأسيس حزب من طراز جديد بقيادة حازمة، وقوانين داخلية صارمة، فالحزب الجديد له لجنة مركزية تدير شؤونه جيداً، وله أيضاً جريدته الرسمية وأسمها (برافدا)، أي الحقيقة. وكانت أول من تصدى لحل مشاكل الموارد المالية في الحزب بلجوءها إلى معارفها القدامى وكذلك إلى أصدقاء زوجها ألكسندر، فكانت النتيجة أن صدر العد الأول من البرافدا في 22 نيسان 1912.

وعل الرغم من كل تلك المسؤوليات الجسام كانت في الوقت نفسه أماً حنون وحاضرة دائماً في حياة أبنائها الخمسة. كتبت عنها ناديا كروبسكايا: “تشعّ فرحاً وبهجة ودفئاً على الجميع، كلنا نحبّ إينيسّا، فهي تحمل معها السعادة والحياة والحيوية أينما حلّت، وهذا كافٍ ليجعلنا جميعاً متعلقين بها إلى أبعد الحدود، فحتى فلاديمير إيلتش في تلك الأسابيع التي قضتها معنا، بات يطلب منها مرارا أن تعزف له سوناتا بيتهوفن (تحت ضوء القمر).

قبل وفاتها باسبوعين كتبت في مذكراتها ما يختلج في صدرها من حقائق: “يحتلّ الحبُّ مركز الصدارة في حياة الأشخاص الرومانسيين، ويكون عندهم فوق أيّ اعتبار، وأنا مثلهم وإلى وقت قريب كنت أوافقهم الرأي، لكن الواقع اضطرني إلى تغيير موقفي، لم يعد الحبّ يمثل كل شيء في حياتي، لقد حلّ مكانه التزامي بالقضية، هذا الالتزام الذي دفعني في كثير من الأحيان إلى التضحية بالحب والسعادة”.

يبقى السؤال هل من علاقة عطفية جمعت إنيسّا بلينين حقيقة أم أن ذلك من نسج خيال الكاتبة رغم ما قدمته من حقائق حول ذلك مما كتبه رفاقهما؟