عن ابنتي التي لم تتزوج

0
87

قبل عشرين عاما كتبت مقالاً بعنوان “عن ابنتي التي لم أنجبها” وقلت فيه إن أسرة لا تضمّ أنثى بين أفرادها أسرة ناقصة، مختلة، تغيب عنها الرقة والعطف والحنان والدلال وتفتقد مناسباتها وأعيادها ذلك الفرح المُلوّن والزاخر بالبهجة، وقد تلقيت وقتها عدداً من الاستجابات والردود لنساء على شاكلتي فاتهن – لأسباب عدّة – انجاب البنت.

أتذكر هذا المقال كلما أطللت علي حفيدتي ذات الستة أعوام، إليانا الصغيرة، رأيتها تمدني بحياة تمنيتها ولم اعشها مع ابنتي التي لم أنجبها، تطلعني في كل زيارة أسبوعية على المهارات الجديدة التي اكتسبتها ورسوماتها المتطورة ورقاصاتها المبتكرة، وتريني نقش الحناء على يديها قبل كل عيد ومناسبة، قالت لي في أحد اعياد ميلادها إنها ستدعو صديقتها في الفصل إلى هذا الحفل في بيتي، وجاءت ليلى وسمعتها وهي ترافقها ممسكة بيدها وهي تحكي لها وتطلعها على تفاصيل البيت وكأنّها مرشدة سياحية، اليانا في كل زيارة تفتش في أدراجي وتستخرج أغراضي المنسية ومكياجي وعطوري وأساوري وأقراطي المنسية، تلتقط ما تشاء وترتدي ما يعجبها، كما لا يفوتها البحث في حديقتي عن الزهور والنباتات الغريبة لصنع باقة جميلة تهديها لاحقاً إلى والديها.

 بالمران والتجربة أدركت إليانا ألا قدرة لها على مواجهة بطش أخيها الأكبر الأشدّ قوّة والأصلب جسداً والذي يكبرها بعامين فقط، فابتكرت وسائل ناعمة لاستمالته وتخفيف حدّة قسوته الذكورية الفطرية، حين يغيب أو يمرض تلتف حوله تجلب له الأكل، تغدق عليها بلمساتها الحانية، ولستُ أدري: أهو أمر انثوي غريزي أم حيلة مبتكرة تداري بها ضعفها وعجزها عن مواجهة من هو اقوى منها أم ماذا؟

انني كما تعلمون لا أعرف البنات ولم اتدرب على تربيتهن، وعلى يد إليانا تعلمت جزءاً يسيراً من تلك الأمور الأنثوية الصغيرة والتفاصيل الرقيقة الحانية التي لم أعرفها أنا الأم التي حظيت بولدين. 

ولكن وعودةً إلى مقالي السابق عن البنت التي التي لم أنجبها والتي ستكون في الثلاثين من عمرها حاليا لو قدّر لها أن تعيش معي وتتلقى التعليم الجامعي وتعمل وتنفق على نفسها وتتلقى تربية أم إعلامية ومتحررة نسيباً على شاكلتي، أتراها تكون قد تزوجت واستقرت في حياة عائلية وأنجبت مثل معظم  النساء أم انضمت إلى قافلة النساء الكثيرات من جيلها واللاتي فاتهن قطار الزواج واكتفين بحياة مهنية ناجحة او بدخل عائلي مريح، يُوفر لهن احتياجاتهن ويكفيهن ذلّ السؤال؟

تقول الإحصاءات إن أعداد النساء غير المتزوجات يتزايد عاماً بعد عام في كل العالم العربي في ظل صعوبة الحياة وتضاؤل الفرص الوظيفية للشباب، وأنّ كثيراً من الأسر اليوم لا تعدم وجود عدد من الفتيات اللاتي شكلن قلقاً لأسرهن كلما مضى العمر ثم سرعان ما أصبح أمراً معتاداً ومألوفا ويتزايد على نطاق واسع ويشكّل ظاهرة،  إذ ما الذي يجبر فتاة أنفق عليها والداها الكثير وتلقت التعليم في أفضل الجامعات ولديها كل ما تريد من حياة أن ترضى بشابٍ لا يلبي طموحها  ولا يتوافق مع مزاجها وتطلعاتها لمجرد الزواج فحسب؟

 إنّ فتيات اليوم “الممكنات” لا يرين في الزواج نقلة إلى مستوى أرفع وحياة أجمل وأوسع – ما لم يصادفهن الحب الذي يجبر الإنسان على الرضوخ والقبول وغضّ الطرف عن عيوب الآخر-  بيد أن الحب هو الآخر نادر وعقلاني جداً في وقتنا الحاضر، وفي الغرب لا يعد عدم الزواج مشكلة، يكتفي الشباب الحالي بالمساكنة دون عقود وأوراق وارتباطات مقيُدة، وينفصلون بهدوء او بصخب أومحاكم على اقتسام تركة الحياة الزوجية ويؤسسون حياة أخرى جديدة مختلفة، ولا تدخل القيم الدينية وقدسية الزواج والحلال والحرام في أعرافهم، يرغبون في كل ما هو سهل وسريع ومريح وبلا تعقيد، رغم ذلك ليسوا أفضل حالاً منا، لكنّها مؤسسة الزواج بأشكالها المتعددة هي التي تترنح وتتصدع وتتخذ صيغاً متبدلة ومتحوّلة في كل مرحلة زمنية.

 لا أعرف كيف سيكون حالي مع ابنتي “المتخيلة” التي لا تريد الزواج وترفض العرسان، وتفضل العنوسة إلى أن يأتي فارس الأحلام الذي يليق بطموحها، بل وتطلب مني إقامة وبناء قسم خاص في بيتي للاحتفاظ بخصوصيتها بعيداً عني، أو تفضل الانفصال عن الأسرة والسكن في شقة خاصة بها أو مع عدد من “صويحباتها”، إذ يبدو أن قطار الزواج قد مضى دون رجعة، هل كنت سأندم على البنت التي لم انجبها؟