كيف تصنع حاشية المثقف وحاشية الحاكم طاووسًا؟

0
68

كان أول اعتراضٍ قرأته لحاكم أن تكون له حاشية هو ما نقله هادي العلوي عن نهج البلاغة في الطرفة رقم تسعة عشر من باب المختارات السياسية، وهي أن عليًا بن أبي طالب ركب يومًا لحاجة فتبعه رجلٌ يمشي خلفه، فقال له ناهيًا: “ارجع. فإن مشي مثلك خلف مثلي فتنة للمتبوع ومذلة للتابع”. (المستطرف الجديد 1/19).

عَلقتْ هذه الحادثة في رأسي منذ سنوات بكل ما تحمل من كثافة لغوية. إن “المشي خلف” فيزيائيًا تعني تبعية الجسد للجسد، وأنت في هذه الحال لا وجهة لك إلا ما يتوجه له الآخر. أما من الناحية العقلية محو الظِل، فلا رأي ولا وجود لك نتيجة وقوع العقل تحت ظل عقلٍ آخر. لا ظل فوق الظل كما يقول التوحيدي.

أما “الفتنة” من الناحية الإيجابية: إثارةٌ جمالية يقوم بها أحد الجنسين لاجتذاب الآخر، كإثارة ذَكَرِ الطاووس لأنثاه. ولكن تحمل الفتنة دلالة سلبية أيضًا، فهي البلبلة والاختلاف الذي يُثار بين اثنين أو جماعتين، ما يقود للخصام والقتال. وفي اللهجة الدارجة يقال: “فلان طاووسي”. لا كدلالة إيجابية أو جمالية بل للدلالة على تضخم الذات والنرجسية النفسية، وأكثر ما يجعل المثقفين والحكام طاووسيين حاشيةٌ تتبعُهم بلا ظِل، بلا اختلاف، وبلا رأي فوق الرأي أو حتى معه.

إن ما يعنيه علي بن أبي طالب في قوله للرجل الذي كان يقصد حراسته “مشي مثلك خلف مثلي” هو التبعية الفيزيائية ظاهريًا، إلا أن المقولة تحمل معها جميع الدلالات المذكورة، فهو لا يريد أن تتسرب التبعية الفزيائية للعقل فيتخذ حاشية لا ظِل لها، كما أن الفتنة هنا قبل أن تكون فتنة للمجتمع رآها وقبل كل شيء فتنة للنفس، ومدخل لتضليلها عن حجمها فتتضخّم لينبت فيها ريش الطاووس شيئًا فشيئًا.

“حاشية الحاكِم وذكاء التوحيدي”

يدرك أبو حيان التوحيدي (310 – 414 هـ) خطورة ألا يكون ظل للحاشية التي يتخذها رجل السياسة ويدرك أيضًا خطورة أن يكون لك ظل تحت أمير أو وزير طاووسي لا يقبل ظِلًا مع ظِلّه، فكيف تعامل التوحيدي مع الوزير أبي عبد الله العارض؟

يكتب التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة مجموع منادماته الفكرية طوال سبعٍ وثلاثين ليلة مع الوزير أبي عبد الله العارض، وكان في الليلة الرابعة والثلاثين أن شكا الوزير للتوحيدي تدخل العامّة في شؤون الخاصة، وهو يقصد هنا تدخّل السوًقة والذين لا شأن لهم في الحكم والثقافة في الأمور السلطانية، فيتوعد بقطع أيديهم وألسنتهم تأديبًا: “إنّي لأهمّ في الوقت بعد الوقت بقطع ألسنة وأيد وأرجل وتنكيل شديد، لعلّ ذلك يطرح الهيبة ويحسم المادّة، ويقطع هذه العادة” (الإمتاع والمؤانسة، ص337).

لقد نما ريش الطاووس بكثرة في ذات الوزير لينزهها عن ذات العامة ضمن مفهومه الطبقي للخاص والعام – وهو بخلاف مفهوم التوحيدي الذي سنأتي عليه – إضافة لخطورة هذا الوزير وخطورة ما يريد أن يُقدِم عليه من حَلِّ لتخليص ذاته من تنقيرات وإزعاج العامة، إلا أن التوحيدي يدخل للوزير من الباب الذي يحبه، ناصحًا مختلفًا، ومُرشدًا ذا ظِل؛ فيمهِّدُ قلبه بكلام عذبٍ ثم يُسمِعه الجملة الخشناء فيقول: “ليس لمن كان الله عزّ وجلّ جعله سائسَ الناسِ: عامّتهم وخاصّتهم وعالمهم وجاهلهم، وضعيفهم وقويّهم، وراجحهم وشائلهم، أن يضجر مما يبلغه عنهم أو عن واحد منهم لأسباب كثيرة، منها: أنّهم إنما جعلوا تحت قدرته، ونيطوا بتدبيره، واختبروا بتصريفهم على أمره ونهيه، ليقوم بحقّ الله تعالى فيهم، ويصبر على جهل جاهلهم، ويكون عماد حاله معهم الرّفق بهم، والقيام بمصالحهم”.

ثم يحاول أن يقلب مفهوم العامة والخاصة في وعي الوزير، ويريه بأن معيار الخاصة هو الشرف الأخلاقي لا المنصب التشريفي، وبأنه مثلما يوجد ذوو خُلق وشرف في أهل الثقافة والحكم يوجد عديمو الخلق والشرف منهم، وما ينطبق على أهل الحُكم ينطبقُ على السوّقة والعوام، وإن كانوا كذلك فليس على أهل الحكم أن ينزعجوا من تنقيرات الناس، وحديثهم عن أمور الحكم والحُكام والساسةِ الذين قدَّرَ الله لهم تدبير أمور الناس وتصريف معائشهم وتيسير شؤون دنياهم!

يأخذ التوحيدي من ريش الطاووس الذي تضخم في ذات الوزير ويحيله قلمًا لا يكتب أوامرًا لإزاحة العامة والتنكيل بهم، بل للاندماج فيهم والاستماع لهم، لأن: “الملك لا يكون ملكًا إلا بالرعية، كما أن الرعية لا تكون رعية إلا بالملك” والعلاقة بينهم كما يراها التوحيدي علاقة تراحمية: “أوشج من الرحم التي تكون بين الوالد والولد”. (الإمتاع والمؤانسة، ص337).

“الحاشية وإفساد المثقف”

لا نجد بُدًا في حديثنا عن حاشية أهل السياسة أن نتحدث عن حاشية أهل الثقافة، ولنأخذ طه حسين نموذجًا، ففي سيرته الذاتية [الأيام] يُخبرنا أنه دخل لعالم الكتابة دون أن يبلغ العشرين بفضل رجلين يعملان في صحيفة الحزب الوطني: الأول هو لُطفي السيد الذي كان يدعوه للاعتدال والقصد في الكتابة، والثاني هو عبد العزيز جاويش الذي كان يغريه ويحرضه على الغلو والإسراف. فكان كلما جاء على ذكر الأزهر وشيوخه خرج من الاعتدال إلى الغلو، وكانت مصر آنذاك تشهد مرحلة انتقالية في التعليم بعد دخول الجامعات على الدراسات الأزهرية، ما جعل عميد الأدباء يتنقَّل وقد ضاق صدره بدراسة الأزهر بين سماع المعممين وسماع المطربشين، فكلما جاء على ذكر الأزهر وشيوخه خرج من الاعتدال إلى الغلو والإسراف: “وما أسرع ما انزلق الفتى من هذا النقد السخيف – يقصد نقده على نظرات المنفلوطي – إلى طول اللسان وشيء من الشتم لم تكن بينه وبين النقد صلة” (الأيام، ص285).

لم يُوبّخ طه حسين على هذا الانزلاق، أو يُعاتَب بل لقي في صحيفة الحزب الوطني قبولًا من الشيخ عبد العزيز جاويش، الذي يصفه بأن له صوتًا عذبا وحديثًا لينًا، إلا أنه من وراء هذه العذوبة واللين كان يرى: “عُنفًا أي عنف إن ذُكِرتْ السياسة أو ذُكِر الأزهر وشيوخه”. أما مدير الجريدة لطفي السيد فكان الرجل الوحيد الذي لم يتحدث عن هذا النقد الذي شغل الناس، وفهم طه حسين بعد زمن أن هذا الصمت وتجاهل لطفي السيد للموضوع كان يعني عدم الموافقة على الفصول التي نقد فيها نظرات المنفلوطي تحت عنوان “نظرات على النظرات”.

يكتب طه حسين هذه السيرة آخر عمره وهو ينقد ذاته بعد أن تخطى سنينًا ما كتبه على نظرات المنفلوطي ويقول بأنه كلما ذكر فصول مقالات “نظرات على النظرات” طأطأ رأسه وسأل الله أن يتيح له التكفير عن ذنبه العظيم؛ ويكمن جمال هذه السيرة أنها من نوادر السير العربية التي لا تخضع فيها ذات الكاتب لورق ترشيح، فلا تبرز الشخصية فيها كملاك إنما إنسانًا يمشي على أرض خطاياه فيذكرها نادمًا أو ناقدًا مُتخطِّيًا.

“ويُزكِّيهم ويُعلِّمهم الكتاب والحِكمة”

لم يكن عبد العزيز جاويش أصغر سنًّا من طه حسين أو أقصر باعًا في الكتابة، بل يكبره بثلاث عشرة سنة، فليس تنجو الحاشية من صناعة الطاووس بكبر سنّها أو كثرة علمها، إنما بصلاح الدوافع والغايات، ولمّا كان كذلك خاطب القرآنُ القلوبَ، وسبقت زكاتها تعليم الكتاب، لأن زكاتها رأس الحكمة، فإن فسد قلب الحاكم قومّته قلوب الحاشية، فإن فسدت فسد الحُكم وإن فسد قلب المثقف قوّمته قلوب رفاقه شيوخًا أو تلاميذًا، فإن فسدت قلوبهم فسدتْ الحِكمَة.