عند الحديث عن النهوض والتقدّم في أي مجتمع، يجب دائماً – وبحسب رأيي – أن نبحث ونتأمل في موضوع التربية. وكلمة التربية – مع الأسف – قد أخذت طابعاً تقليدياً وبسيطاً في بعض الأحيان؛ بدل أن تأخذ طابعها الطبيعي والإنساني والمتجدد. وإن تحقيق المعاني والكلمات الأخيرة، يتطلب حضوراً واعياً إلى القيم الصارمة، التي لا تتجاوز مستويات العقوبة المطلوبة؛ إلى مستويات الإهمال وعدم تحمل المسؤولية.
لقد تناولنا في المقال السابق، مكانة «الغضب» في حياتنا الإنسانية، وإن الترجمة الأجمل لهذا الموضوع، هو الحديث والكتابة عن شؤون التربية. وإن الحافز الأكبر الذي دفعني لذالك، هو أحد الأفلام السينمائية التي شاهدتها في الفترة الماضية، وهو يمنحنا – أي هذا الفيلم – الكثير من المعاني والأسئلة، في مواجهة التقاليد الإجتماعية ومكانة التربية.
وفي الحقيقة، إن الحديث عن هذا الفيلم، سيكون في النصف الثاني من هذا المقال، لأنه جاء مُكمّلاً إلى فيلمٍ آخر – لا يقلُّ عنه جدارةً وأهمية – والذي سنبدأ به موضوعنا في السطور التالية.
(1)
الفيلم الأول، هو فيلم Red، وهو من إنتاج العام 2008، وهو يحكي لنا عن قصة في غاية الوضوح والمصارحة؛ عن إنحدارات الأبناء وتراجع التربية. وإن قصة هذا الفيلم، تنتمي إلى المجتمع الأمريكي، وبما يحمله من تناقضات وخصوصية وثقافة مجتمع، هي بعيدة نوعاً ما عن مجتمعاتنا في الخليج والمنطقة العربية؛ ولكن (تأثيرات العولمة) والقيم الاستغلالية، تحمل من الأبعاد والمكانة بطبيعة الحال. والجزء الأكثر مصارحة في هذا الأمر، هو دور “المفاهيم الذكورية”، تلك التي أخذت نوعاً جديداً من التأييد والمبالغة في المجتمعات الغربية – ولأسباب مختلفة – وهي تتشابه في بعض الأحيان، مع ثقافة المجتمعات العربية؛ تلك التقليدية منها والرجعية.
يبدأ الفيلم الأول، بمشاهد بسيطة وعادية، لحياة رجل من المجتمع، يعيش وحيداً برفقة الكلب (Red)؛ ويذهب هذا الرجل إلى الصيد بالقرب من إحدى البحيرات، بكل هدوء وطمأنينة. بعد ذالك، يقترب منه ثلاثة شبان مراهقين، يحمل أحدهم بندقيةً للصيد أيضاً، وبعد محادثة تقليدية عن أجواء الصيد، تجاوز الفتى حدود الإحترام والأدب، مستخدماً السلاح الذي بين يديه من أجل سرقة هذا الرجل. وبعدما لم يحصل الفتى المغرور بموقفه على المال من ممتلكات الرجل، قام بإطلاق النار – وبكل برود – على كلب الرجل (Red)، جاعلاً منه الضحية في هذا الموقف.
لم تكن لحظةً عابرةً، تلك التي قضت على الكلب (Red)، فقد كانت تحمل وراءها الكثير من الجراح، تلك التي يحملها الرجل، أي صاحبه ورفيقه. وإن مستويات الإنحطاط والنذالة، التي قام بها هذا الفتى المراهق، بحق الرجل وكلبه – من الإنساني والأخلاقي والطبيعي – أن لا تكون عابرة، أو مِنْ دون محاسبة.
لا أدري، في الحقيقة، إذا كانت الكلمات تستطيع أن تصف وتوجز هذا الفيلم الجريء والهادف؛ ولكنني سأقول عنه، أنه يحمل من المصارحة والنقد والأبعاد الإنسانية، ما يجعله صورةً ومثالاً – ينتمي ويبحث دائماْ – عن قيم العدالة والتربية.
(2)
يذهب الرجل، صاحب الكلب (Red)، إلى منزل الفتى الذي قام بالجريمة، من أجل التحدث إلى والده. وللمفارقة هنا، أن في هذه الحادثة وهذه المسألة؛ شقيقان مختلفان، أحدهما جيد والآخر سيئ. وأن الشقيق الذي قام بالإعتداء وإطلاق النار، هو الفتى السيئ – ذالك الذي يعيش نوعاً من «البطولة والثقة» – تلك التي تدفعنا؛ عن البحث عن أسبابها ودوافعها اللاإنسانية.
إن التبرير للأخطاء في الحياة الإنسانية لا يأتي من الفراغ، بل من البيئة التي تسانده وتدعمه. والمثال الأوضح لهذه الكلمة، هو شخصية الأب التي تعاملت مع هذا الموقف الحازم، بكثيرٍ من الجمود واللامبالاة غير العادلة.
التربية ومكانتها، هي البناء الإنساني الأكثر أهمية وحصانة، عند المواقف الأخلاقية في حياة البشر. وقد كانت المجتمعات، في العقود السابقة، تنشد التعليم كنوعٍ من الإرتقاء عن الأميَّة والتخلُّف، وهي تجاوزت ذالك تقريباً في الأزمنة الراهنة؛ ولكننا لم نتجاوز التحديات المتجددة، وعلى رأسها مسألة التربية. تربية الأبناء على وجه التحديد. وبالرغم من مكانة الثقافة ووعي المجتمع بهذا الشأن؛ إلا أن العمل والتجديد في شؤون التربية، يبقى حاضراً ومهماً. وإن التقدّم والحداثة اليوم، قد منحتنا الأفضلية في التعامل مع أبنائنا؛ بالقيم الحسنة والعادلة – وأيضاً بالتربية الحازمة – التي تجعل مِنْ دورهم في هذه الحياة، مثالاً للإحترام والخير والإنسانية.
(3)
بعض الأفلام السينمائية، تعمل وتحاول جاهداً، تصوير الواقع الاجتماعي ونقده بصورة جديدة ومختلفة. وإن فيلم (Red)، في الحقيقة، قد وصل إلى ذالك وبجدارة عالية فعلاً. والإبداع الحقيقي، هو الذي يقدر على إيصال أكبر المعاني والأفكار، بصورة واضحة وبسيطة.
الأسئلة المهمة والهادفة، هي التي تجعل من المعنى حاضراً في حياتنا. وعلى ضوء هذا الفيلم؛ فإن قيمة العدالة والشرف، أراها، من أكثر المعاني احتراماً ومسؤولية. وإن هذه المعاني، عندما تغيب، تفتح المجال إلى مستوياتٍ مختلفة، من التحديات والأزمات.
الإعتذار ومكانته في الفيلم، يأخذ جانباً نبيلاً وانسانياً، نحتاج كثيراً إلى التنوير إليه في حياتنا العصرية. وإذا كانت كلمة «الإرتقاء»، تحمل عنواناً للنهضة الاجتماعية؛ فإن كلمة «الإعتذار»، تحمل عنواناً عظيماً للإحترام والإنسانية. ومن خلال هذا المعنى الهادف – والذي شاهدناه في أحد حوارات الفيلم – بين الرجل وبين الفتى الجيد، والذي أتى إليه، من أجل أن يعتذر على الحادثة التي حصلت في حقه. وقد أبدى الرجل احترامه لهذا الموقف، معتبراً حضوره نوعاً من «الرجولة والمسؤولية»؛ التي تتجاوز موقف أخيه، وتتجاوز أيضاً موقف أبيه.. الذي لم يكن موقفهما، يحمل شيئاً من الإحترام والنزاهة والمسؤولية.
(4)
أما الفيلم الثاني، فهو فيلم The hunt، وهو من إنتاج العام 2012، وهو يناقش، من جديد، دور الإهمال ومكانة التربية. وإن القصة التي يناقشها هذا الفيلم، تحمل من الحساسية والأهمية؛ التي تدعو المشاهد إلى التأمل كثيراً، لما تحمله هذه الحياة أحياناً، من الظلم والإستغلال.
البراءة والإتهام الجنسي.. هذه هي البداية المعقدة، تلك التي بدأت بها الأزمة في هذا الفيلم. وكان من الواضح لدى المشاهد، حقيقة الأحداث التي توالت في الفيلم، وكيف أنها توجهت نحو الظلم والمبالغة والابتعاد عن الحقيقة؛ تلك التي جعلت من هذا «الإتهام»، الفريسة والهدف لهذا المجتمع، التي تعيش فيه الشخصية الرئيسية في هذا الفيلم.
إن معرفة السياق الذي جرى فيه هذا الإتهام، مهمٌ جداً لمعرفة حقيقة ما حصل. وقد أخذت الحساسية الجنسية، جانباً كبيراً من المسألة؛ بدلاً من أن تأخذ الجوانب التربوية أو المهنية. ولكن للقصة، بالتأكيد، معانيها وأبعادها.
الطفلة «كلارا» وشخصية «لوكاس».. هما الحكاية في هذا الفيلم. وبعدما كان «لوكاس» يعمل معلماً، اضطر بعد إغلاق المدرسة التي يعمل بها، إلى العمل مؤقتاً في أحد رياض الأطفال. ولكن الظروف والأحداث، ليست بهذه البساطة أبداً. فقد كانت الطفلة «كلارا» إبنة أحد أقرب أصدقائه؛ وقد قام بإيصالها إلى منزلها في أحد المرات، لأنها خرجت من المنزل نحو متجر البلدة، ولكنها لا تعرف بعدها طريق العودة. وقد تتكرر اللقاء بينهما في اليوم التالي، عندما رأها تجلس خارج المنزل، بعدما كان والداها يختلفان ويتشاجران على إيصالها إلى الروضة.
إن هذه المودة العفوية، بين الطفلة «كلارا» وشخصية «لوكاس»، قد قامت بالتأثير كثيراً على الطفلة «كلارا»، مما جعلتها أن تقوم – وبكل براءة – بإرسال هدية إعجابٍ بسيطة، ووضعها في معطف «لوكاس». وقبل أن يتحدث معها «لوكاس» بشأن ذالك، وأثناء اللعب مع الأطفال، قامت الطفلة «كلارا» – وبشكلٍ عفوي أيضاً – بمنح «لوكاس» قُبلةً على فمه، وهو الذي أنتقدها بشأن ذالك؛ موضحاً لها أن هذا النوع من التقبيل، هو يخص الأم والأب فقط.
هذا هو الموقف الذي حصل بين الطفلة «كلارا» وشخصية «لوكاس».. والذي على أثره، قد بدأ هذا الإتهام الجنسي؛ ذالك الذي يحمل الكثير من الخلفيات – الطبيعية والغير طبيعية – في منزل وبيئة الطفلة «كلارا». وإن جوهر الحقيقة والإتهام، قد بدأ من منزلها، عندما كان أخيها الأكبر، والذي لا يتجاوز عمره 16 عاماً، يتحدث ويتلفظ بالكلمات الجنسية – ومِنْ دون خجل – وهو يسير في المنزل برفقة صديقه؛ أثناء حملهم أحد الأجهزة الذكية، ذالك الذي يحتوي على الصور والمشاهد الجنسية.
إن هذا الفتى المستهتر، والذي لم يتلقَّى التربية الحسنة؛ كان هو الجزء الأهم، في تكوين هذا الإتهام الجنسي الظالم، في حق شخصية «لوكاس». وعلى ما يبدو، أن الذي حصل مع الطفلة «كلارا» – والتي لا تتجاوز 4 أو 5 سنوات – أنها ربطت ما حدث معها في منزلها، من الكلمات الجنسية التي سمعتها – تلك المرتبطة بالرجل خصوصاً – وبين حزنها لأن «لوكاس»، لم يأخذ هديتها البسيطة.
(5)
لقد أخذت التقاليد والأوهام في المجتمع، عاملاً مؤثراً في توجيه هذه التهمة الجنسية، وهو الذي قامت وبدأت به المديرة بشكلٍ تلقائي – ومِنْ باب المسؤولية ربما – تلك التي لم تتساءل أو تتعرف، على الخلفيات التي جعلت من «كلارا»، تبوح وتتكلم في هذه المسألة. وإن الصدق والبراءة، هو من طبيعة الأطفال بالفعل، ولكنه – وعند المواقف المهمة والجادة – من الطبيعي والعادل، أن يستكمله الكبار بالبحث والحقائق والأدلة.
في التربية الأسرية، يقوم بعض الآباء والأمهات أحياناً، بالكثير من مواقف التقصير وعدم تحمل المسؤولية؛ تلك التي تساهم في تراجع الاستقرار والأمان في حياة الأبناء. وإن الأدوار التقليدية للإنجاب والتربية – لم تعد كما كانت في الماضي – تستطيع مقاربة الاحتياجات والأولويات، النفسية والعاطفية والفكرية، التي يحتاجها الأبناء اليوم.
(6)
إن القصة والأبعاد في هذا الفيلم، تحاول تسليط الضوء على مكانة «البحث عن الحقيقة» في حياتنا. وفي هذا الشأن أيضاً – يناقش الفيلم من جديد – قيمة العدالة ودورها، الذي يتراجع ويغيب؛ عندما تكون المفاهيم التقليدية والأحكام الاجتماعية حاضرة، أكثر من القيم النقدية والإنسانية.
العدالة أولاً، هي ليست نوعاً من الطموحات المثالية، بل هي نوعٌ من الفضائل الاجتماعية. ونحن – في هذا السياق – لم ننسى الجوانب البشرية، التي تحمل من توجهات الخطأ والصواب؛ ولكننا نطمح دائماً في تلك النسبية، التي ترتقي وتتجه دائماً نحو الأعلى. وإن سعي الإنسان والفرد لتحقيق هذه المعادلة، يجعله – وبحسب تقديري – محققاً للغايات الإنسانية والقيم النبيلة.
(7)
في الختام، لا توجد كلمة واحدة، تستطيع أن تختصر شؤون وأبعاد التربية. ولكنني أرى – في هذه الأفلام – الكثير من المعاني والقيم، التي تحتاجها التربية اليوم في حياتنا. وإن قيمة الرجل ومكانة المرأة، تصنع فارقاً مهماً في بناء الأسرة وتكوين المجتمعات؛ من خلال قيم الإحترام والعدل والخير، وأيضاً من خلال مفاهيم الحب والرعاية والقيم الحسنة.
مكانة الأسرة في التقدّم الاجتماعي، نستطيع أن نراها بوضوح في صورة أبنائنا وبناتنا. وإن الذي يحتاجه الأبناء من الجنسين، لا يختلف كثيراً بينهما. وكما يحتاج الأبناء إلى الثقة والشجاعة وبناء الشخصية؛ فإن فتياتنا يحتجن إلى ذالك أيضاً. ومن الأجمل والأرقى هنا – عندما نتحدث عن تربية فتياتنا – أن لا ننسى مكانة الحب والرعاية والإستقلالية؛ تلك التي تختصرها الجملة التربوية الأجمل، بالإحتضان العاطفي. وإن تحقيق هذه الغايات الرفيعة، هو من الأدوار الطبيعية للآباء والأمهات، في طريقهم نحو الزواج والإنجاب وبناء الأسرة.