نقِفُ اليوم على أعتابِ حربٍ قد تعصف بالمنطقة، تتصاعد التهديدات وتزداد قوة الفعل و ردّ الفعل، وعلى مايبدو أن الحرب – إن حدثت – هذه المرة لن تكون كالحروب التقليدية السابقة، جيشان نظاميان يتواجهان في رقعة جغرافية محددة، بل الظاهر أن المكون الأساسي والفاعل لهذه الحرب ستكون تنظيمات عسكرية متمرسة ناضلت على مدى عقود ضد الاحتلال، أو ربما يكون الجيشان النظامي الكلاسيكي والتنظيمي العسكري يقاتلان معاً ضد احتلالٍ هجين لم يعد له أي حقّ للبقاء في منطقةٍ ترفضه منذ نشأتِه وخصوصاً بعد أن أمعن في الوحشيّة وفي امتهان سيادة دول المنطقة، يرتكب الاحتلال حتى هذه اللحظة أفظع الجرائم وأشدّ أنواع الشرور ضد الإنسانية، إبادة جماعية أصبح العالم كله يستنكرها ويشمئز من مرتكبيها ويتحركُ جِدّياً بكلّ ما يمكن من أجل الضعط لإيقافها.
تُرى ما هو الشكل الذي ستكون عليه الثقافة في أزمنة الحرب وعلى أيّةِ هيئة سيتمظهرالمثقف؟
شخصياً لا أعرف إجابةً محددةً على هذا السؤال لأني لم أعاصر حرباً كبرى ولم يسمح لي العمر والخبرة بَعدُ لتقييم وتقديم دور الثقافة والمثقف في أزمنة الحرب. منذ السابع من أكتوبر – التاريخ المفصلي للمنطقة – لاحظتُ سلوكياتٍ متباينة للمثقفين، ثمةَ نوع من المثقفين فضّلَ الإنكفاء على الذات والإختفاء تماماً، ذاك النوع الأول. والثاني نوعٌ فضّل أن يمارس دور اللامبالاة وعدم الإهتمام بما يحدث فهو يتعاطى مع الثقافة كما لو أنه لا يوجد حدث مزلزل قريب منه وسيل دماءٍ لايتوقف، وإزاء هذا السلوك البشري الغريب قد يتطلب الوضع الرجوع إلى التحليل النفسي لدراسة هذه الحالة السايكو/ سوسيولوجية لهؤلاء الأفراد لأنه ليس من السليم ألّا تتفاعلَ أو تحزنَ أو تعبّر أو تغضب بعد كل ما يحدث من إبادة، و التفاعل – إن وجد – لابد أن يتمظهر في سلوك مختلف حتى وإن كان شفيفاً، هذه إشكالية أخلاقية لايسع المقام هنا للتفصيل فيها ربما نعود إليها في مقالات أخرى.
أما النوع الثالث فهو المثقف الفاعل والمنفعل، المؤثر والمتأثر، بكل شيء! نعم بكل شيء، بما يقرأ، بما يكتب، بما يتحاور، بما يحدِثُ من أحداثٍ داخل حدود ذاته وخارجها، يتعاطى مع الأحداث الراهنة بحسّهِ الإنساني المرهف وبذلِه وعطائه المتجدد، وهو إذ يمارس هذا الدور لا يريد شهرةً إنما ماتملي عليه أخلاقُه وذوقه الثقافي الرفيع. الإنسان كائن اجتماعي بالطبع يشعر بالمسؤولية تجاه الآخرين من حوله يساندهم يتعاطف معهم لأنه قد يحتاج يوماً الى من يآزره وهو دائم القلق من هذه الناحية وإنه سيشعر بالإغتراب والوحشة إذا ما خلى من هذا البعد الإجتماعي المهم. تركز الفلسفة الوجودية على ضرورة القلق الوجودي وتحمّل المسؤلية حتى يتخلص الإنسان من أزماته. مِن منظور فلسفته يرى الفيلسوف الألماني هديغرد أن جوهر القلق الوجودي هو الخوف على الوجود من العدم، وقد وضع هديغرد حضور الإنسان القلِق في الوجود كركيزة أساسية في هذا العالم تعطي الحياة معناها وعليه أن يكون دائم القلق تجاه مصيره (والقلق هنا بالمعنى الفلسفي أي التفكّر والمسؤولية)، فالإنسان بقَلقِه يصنع نفسه وعالمه المحيط به ولايمكن للإنسان أن يجد نفسه في هذا الوجود إلا إذا كان حرّاً. وفي فلسفتنا الإسلامية وضع ابن عربي الإنسان كمظهر لصفات الحق، إذ أن الخالق أراد للإنسان أن يكونَ خليفته في الأرض وعليه مسؤلية التمظهر بصفات الله الحسنى وأعلاها رتبةً الرحمة والحب، واللامبالاة نقيضهما.
في الكتاب الذي يتناول فيه الدكتور عبدالجبار الرفاعي شؤون القراءة والكتابة وأثرهما على حياته “مسرات القراءة ومخاضات الكتابة” يذكر في فصل بعنوان “أن نكتب يعني أن نختلف” بعد أن يحثّ الكاتبَ والمثقف بأن يذكر آرائه المخالِفة لأيديولوجيا المجتمع المغلق بكل صراحة وجرأة، يعود بعد عدّة صفحات يستنكر مفهوم المثقف العضوي الذي صاغه غرامشي، يقول:”يكرر بعضهم بطريقة مملة عبارات للمفكر اليساري الإيطالي غرامشي وكأنها نصوص مقدسة، بوصفه مثالاً للمناضل الذي يجب أن يتخذه نموذجاً كل من يكتب. الطريف أن هؤلاء يتحدثون عن حق الإختلاف، وضرورة تعبير كل كاتب عن تفكيره هو، في الوقت الذي يريدون منه أن يكون صورة مشوهةً من غيره” ص92.
ما القراءة والكتابة إلا تأثير وتأثّر! صحيح أن الإتباع الأيديولوجي المطلق لأي مفكّر أو فيلسوف أمر غير سليم يضيّق أفق المثقف القارئ والكاتب، لا يراد مِن الكاتبِ أن يكونَ صورة من غيره إنما أن يكون نموذجياً من ناحية الفعل والإنفعال غير منفصل عن الواقع المعاش وعن الأحداث الخارجية وألا يكون مدفوناً داخل كتبه وهذا -على ما أظن- ما قصده غرامشي. أن يكون الكاتب بلا هُوية يكتب بشكل منفرد ولايفكر إلا في نفسه في ظل كل التحديات المصيرية الراهنة هو أيضاً سلوك فرداني أناني غير سليم وهو سلوك يناقض الى حدٍ ما عنوان هذا الفصل الذي حدده الرفاعي في مواجهة التصلب الإجتماعي.
من جُملةِ تعريفاتٍ للمثقف انتخبتُ هذا التعريف: المثقف هو أي شخص يمتلك فن الإتقان والإبداع والنقد والإنماء المعرفي ويكون قادراً على نشره وإذاعته بين الآخرين، والإنتلجنسيا هم الطليعة من المثقفين أهل الفكر والنخبة الفنية والإجتماعية والسياسية، كذلك حمَلَةُ المعرفة المتخصصة في التعليم…الخ، والمثقف لغوياً تعني الرمح المقوّم وهي الفاعل مِن ثقّفَ (الرائد) وقد ذكره عنترة في مُعلّقته في بيتٍ قال فيه: “جادَت لهُ كفّي بعاجلِ طعنةٍ ** بمُثَقّفٍ صَدقِ الكعوبِ مُقَوّمِ”.
في رأيي المتواضِع، أنْ تكونَ مثقفاً يعني أن تجتهد في تقمّص الصفات الثلاث المذكورة أعلاه كلها أن تكون منكفئاً، ولامبالٍ، ومندفعٍاً مبادِراً، حسبَ الظرف وما يقتضيه المبدأ الأخلاقي والموقف الإنساني وأريحيةِ ذاتك، أن تعي موضعك تماماً في أي زمان ومكان.