“سمفونية الموتى”.. قصيدة هاربة من التابوت

0
27

في كل مساء قبالة ضريح حافظ الشيرازي، أحد أشهر الشعراء في إيران، يتكأ الكثير ممن يساورهم القلق والشوق”، يهمسون بمخاوفهم لاستقراء الطالع في جوف قصيدة عمرها نحو ستة قرون!

يستدير هائمون وفضوليون حول الضريح ذي القبة المشيّدة من حجر اليشب، في إحدى حدائق مدينة “شيراز” جنوب إيران، حيث وُلد الشاعر وعاش في القرن الرابع عشر.

يسهمون ويقفون على سطرٍ بشكل عشوائي في ديوان شعري لقصائد حافظ الشيرازي، فيما يتلو بعضهم مختارات من أبياته “غالباً ما تتماهى فيها التعبيرات الصوفية بالاستعارات”.

لكنما هذه المساورات تعد لديهم أثقل من مجرد قراءة طالع بهدف تبديد أرق الجفون. إذ تعكس هذه التقاليد شغف الإيرانيين العميق بالشعر الذي يحتل مكانة خالصة في المحادثات اليومية وولخطب السياسية والأغنيات، حتى يكاد يشاركهم رغيفهم وأنفاسهم.

يجنح البعض إلى حدّ نظم أبيات عن الحبّ والروحانية على السجاد الفارسي، ونقشها على المجوهرات أو حتى كتابتها بخط مزخرف على اللوحات.

ومن بين الشعراء البارزين سعدي الشيرازي، الذي لا يزال نثره الغنائي العائد للقرن الثالث عشر حياً في ذاكرة معجبيه، وأبو قاسم الفردوسي، مؤلف ملحمة الشاهنامه “كتاب الملوك”، الذي يُبرز تراث إيران ما قبل الإسلام من خلال حكايات أسطورية.

ولعل الترجمة العربية انحازت عن الأدب الإيراني إلى الشّعر الذي كان له الحصة الأكبر من العناية اللغوية، فتعرف القارئ العربي على الكثير من الشّعراء الإيرانيين الذين ينتمون إلى مراحل ومدارس شعرية متنوعة أمثال الفردوسي صاحب “الشاهنامة” وفريد الدين العطار، فيما بقت النّصوص السّردية دون المرور عليها رغم أهميتها كجنس أدبي قادر على تصوير المجتمع إلى العالم بعدسة واضحة. ورغم وجود العديد من الروائيين الإيرانيين الذين وصلت نصوصهم إلى العالمية أمثال صادق هدايت صاحب رواية “البومة العمياء” 1937 التي ترجمت الى معظم لغات العالم وبرزك علوي صاحب رواية “عيناها” 1952، ورضا براهني صاحب “السيدة آزادة وكاتبها” إلى محمود دولت آبادي صاحب أضخم رواية في الأدب الايراني وهي “كليدر” المؤلفة من ١٠ مجلدات وغيرهم.

ولحسن الحظ صدرت رواية “سمفونية الموتى” عام 2018 ترجمتها العربية عن دار المتوسط، لكاتبها الإيراني عباس معروفي ومترجمها المغربي أحمد موسى، المصنفة تحت مجهر النقاد الإيرانيين بأنّها ضمن أفضل عشر روايات في تاريخ الأدب الفارسي.

رصَ معروفي ببديهية المبدع منمنمات أدبية ساحرة تمسك بك من الحركة الأولى فتأسرك بتلقائية دون أن تفلت منك إلى آخر سطر في الحركة الأخيرة. ببراعة متناهية على التّصوير يرسم معروفي أطلال عوالم خلت، ينفخ فيها الروح والحياة ليستنطق مكنوناتها وما يجيش بداخلها من صراعٍ لأجل البقاء بلغة شاعرية ملحمية تجسد تفاصيل المكان وكأنه يزاوج رصانة الأدب برشاقة السينما عبر وصف الحركات بأدق إيماءاتها على نحو “كان قد وصل الى الشارع. ضرب برجله بقوة حتى لا يبقى الثلج عالقا على جزمته. كانت حبّات البرتقال المتعفّن تطفو فوق سطح الماء، ثم تغطس والماء يجري بسرعة والسماء قد أضحت، تماماً سحابة دكناء”. أو على صدى “حين شرعت الأمطار بالهطول، توقفت عن التمرجح. كانت واجهة البركة مليئة بالفقاقيع المستديرة الصغيرة والسمكات تتطاير لتبتلع حبات المطر.” وهكذا تتوالى الصور وتهيأ الأحداث بشغف سريع يود القارئ تأمله بوتيرة متمهلة.

تبدأ الحكاية من خان تجارة المكسّرات في بلدة “أردبيل” شمال إيران في أربعينيات القرن الماضي بأسلوب “الخطف خلفا” وتداعي الذاكرة؛ حيث تقيم عائلة جابر أورخاني المؤلفة من الأب والأم وثلاثة أبناء وبنت واحدة يعزف كل واحد منهم مقطوعة حياته في طريقه نحو مماته التراجيدي الذي وضع لحنه معروفي بسلاسة. لتبدأ الحكاية مع أورهان الولد الأصغر لجابر الذي قتل أخيه الأكبر يوسف العاجز عن الحركة إثر سقوطه بعد محاولة تقليد هبوط المظليين الرّوس، لأنه ضاق ذرعاً بالاهتمام به بعد موت والديه. أورهان الابن الذي يقتفي خطى الوالد في عالم التجارة ودون أن يأبه بالقيم الإنسانية في حفظ حقوق أخوته بأموال أبيه. يرى أن مجرد معرفة القراءة والكتابة كافٍ لإدارة شؤون العيش، فالأهم هو جمع المال -وهذا ما كان يرضي الوالد- الرجل المحافظ المتشبهين بالدين، الذي يرى الحياة من منظور ما يملكه ويؤمن به. فالبنت بالنسبة إليه “خُلقت للمطبخ وخدمة الزوج”، ولم يعرف أن مصير ابنته ايدا الانتحار حرقاً بعد أن هجرها زوجها وتملص من مسؤلياته وهاجر إلى أمريكا.

يؤمن جابر الأب بأن مهمة الرجل الأزلية تكمن في ثنائية العمل والعبادة، لذا كان أيدين ابنه الأوسط ذو الميول اليسارية مبعث شقاء وتجهم، بعد أن حاول مرات تعيسة ثنيه عما يجول في رأسه من أفكار واستمالته للعمل معه في الخان. لكن تعلق أيدين بالشعر وقراءته التي كوّنت ملامح شخصيته ورسمت حياته المغايرة اضطرته لمغادرة المنزل والهروب من تزمت والده وملاحقته المستمرة له بعد أن أحرق كتبه أكثر من مرّة. ليقوده هروبه إلى عائلة أرمينية احتضنته ورعته واستثمرت مهارته في صناعة البراويز الخشبية، وهناك ارتبط بعلاقة حبّ بفتاة شقراء تدعى سورملينا، تزوجها زواجين الأول مسيحي والثاني إسلامي -دون أن يذكر الكاتب أية عقبات اجتماعية أو قانونية تعيق وتستهجن هكذا زواج مختلف في ديانة طرفيه المتفقين في الحبّ- واستمرت حياتهما معاً الى أن ماتت سورملينا بداء الجذام وتلاشى لحنها.

يقول أيدين “عندما يحبّ الإنسان شخصاً يكون بمفرده، لأنه لا يستطيع أن يُخبر أحدًا غير ذلك الشخص بما يشعر به، وإذا كان هذا الشخص هو من يشجعك على الصمت، فستكون وحدتك وعزلتك كاملة”. هو نفسه الذي سأله والد ذات يوم: عم تبحث؟ فأجابه: “عن نفسي”. انتهت حياة أيدين بعد هواجس مرهقة وبعد أن دس أورهان السّم في طعامه ليموت غرقاً وتخفت معه سمفونية جنائزية بمفارقاتها التي تكشفت حين أدرك أورهان حقيقة عقمه وتلاشي حلمه بإنجاب ابن يكمل مشواره.

تحمل الرواية أفكارا عديدة في فترة زمنية محددة -بين ما قبل الحرب العالمية الثانية ودخول الروس والبريطانيين إلى إيران وما تلاها من أحداث- رافقت الحراك السياسي والاجتماعي بعد الحرب، والذي تمخض عنها صراعاً بين أجيال وأفكار متضادة في مجتمع مقيّد بمعوقات متعددة، أولها العادات الاجتماعية الموروثة وليس آخرها تحكم الغرب بمقومات الحياة كالصناعة متمثلة بالمعامل التي أقامها البريطانيون واستقطاب اليد العاملة.

“سيمفونية الموتى” رواية الأصوات الصاخبة التي أمسك عباس معروفي بأذرعتها وحرك شخوصها بأناقة وسجية دون أن يمارس دكتاتورية كتابية خانقة، تاركاً كل شخصية تتكلم عن ذاتها بأريحية عبر الحوار والسرد و تداعي الأفكار.

في البداية يتولى أورهان السرد، ثم أيدين وبعده سورملينا ليعود مرّة أخرى إلى أورهان منتهياً بالحكاية معه. ويحتفظ معروفي لنفسه بضمير القول بما يحمله من أفكار وفلسفة حياتية، وتسمح هذه التقنية المألوفة في الأدب العالمي بتقديم أحداث متبانية المستويات ومواقف يبرز التضاد فيها على النحو الاجتماعي والثقافي. كما هو حال أورهان وأخويه أيدين وايدا والأب مع أيدين. وكما يضيء التوافق عند لقاء ايدين مع العائلة الأرمينية التي تحتضن ميوله الأيدلوجية.

ورغم أن الرواية تظلل مساحة زمنية لأكثر من ٤٠ عاماً إلّا أن معروفي لا يعول على التغييرات الزمنية كحالة اجتماعية بقدر ما يتتبع تغيّرات شخوصه ومصائرهم دون ربطهم بحال المجتمع المتغير، وهو بهذا يسعى  لعدم إقحام في فلسفة المقولات والشعارات الرنانة التي تفرغ النص في بعض الأحيان من جمالية الاتساق الشعري الدرامي.

جدلية اللغة لدى معروفي لبنة  أساسية، وليست مجرد فرشاة تلون باقي العناصر. فلا يقبع النص أسيراً للشخوص والحكاية ولا يبقى القارئ أسير المعنى بل أسير لغة المعنى دون أن تبهت حالة الدهشة التي ترافقه طيلة إنصاته لسيمفونية الموت.