بقلم : Sidra Shahid
ترجمة: غريب عوض
26 أبريل 2024
كان غضب الطلاب إزاء العدوان الإسرائيلي على غزة موجهاً نحو جامعاتهم، التي يعتبرون رفضها إدانة العدوان الإسرائيلي بمثابة فشل أخلاقي . ومن خلال منع الأحتجاجات ’لحماية‘ حيادية البيئة الأكاديمية، يبدو أن الجامعات تؤكد ذلك.
وفي 26 يناير، أرتأت أعلى محاكم الأمم المتحدة في مدينة هيغ Hague في هولندا، محكمة العدل الدولية، من المعقول أن يبلغ العُنف الإسرائيلي في غزة إلى الإبادة الجماعية. وأكد هذا الحكم القضائي ما كان قد وثقهُ الصحفيون في غزة على مدى شهور في مخاطر شخصية هائلة، وما كان عُلماء الإبادة الجماعية يكتبونه. وما حذر منهُ عُلماء الإبادة الجماعية. وفي وقت كِتابة هذا التقرير، أصبح الوضع أكثر حِدة: فقد سيطرت المجاعة على مساحات واسعة من قطاع غزة . وأصبح الغزو البري لمنطقة رفح وشيكاً، ومازالت الصُحُف تنشر تقارير عن فظائع يومية.
وفي جميع أنحاء أوروبا والولايات المتحدة كان الطلاب يحتجون على مواقف جامعاتهم بشأن غزة. لقد تجنبت العديد من الجامعات إتخاذ أي موقف، وكثيراً ما تُردد مواقف بِلادها كالببغاء. يرى طلاب تلك الجامعات الأهمية الأخلاقية للوضع بشكل أكثر وضوحاً. إنها لا تتمسك بالتفكير العملي . إن حسهم الأخلاقي لطيف ويتوقعون أن يتم تنظيم وبناء العالم وفقاً لما هو حق، وليس لما هو مُناسب.
ولكن بدلاً من الإشادة بالوعي السياسي لدى طُلابها، صوّرت الجامعات غضب الطلاب بإعتبارهِ أمراً غير مُنظّم وخطير. وفي الجامعة التي أعملُ بها أنا، إستدعى المسؤولون أفراد الشرطة لفض الأحتجاجات. ومن خلال أختيار تجريم الطلاب المتظاهرين بهذهِ الطريقة، تُسيء الجامعات تصوير غضب طلابها.
الغضب والأحتجاج
كثيراً ما يُساء فهم الأحتجاجات الغاضبة. ومن السهل معرِفة السبب. وتُخبِرُنا الحِكمة البديهية بأن الغضب سلوك مُتغلِب وعِرضة للإفراط ، كما عبرت بذلك فيلسوفة الأخلاق الأمريكية مارثا نوسبوم Martha Nussbaum. في الغالب الفيلسوفة مارثا نوسبوم مُتشائِمة بشأن الغضب، والتي تعتقد أنهُ دائماً يَقترن بالإنتقام. وبالفعل فإن الإنتقام كثيراً ما كان دافعهُ الغضب والإعتقاد بأن العُنف الصالح يمكن أن يوازن ميزان العدالة. فالفيلسوفة نوسبوم تُجادل قائِلة، أن هذا شكل من ’التفكير السحري‘ تدفعهُ ’أفكاراً ميتافيزيقية من التوازن الكوني‘. لا يمكن أبداً للعُنف الذي نمارسه أن يُزيل الضرر الذي لحق بِنا. الأضرار لا تُلغي الأضرار.
إذا قَبِلنا بوحهة نظر الفيلسوفة نوسبوم ، فإن الطلاب يحتجون لأنهم يُريدون الإنتقام. فهم يتظاهرون من أجل أستثارة المجتمع الأكاديمي، وهدف احتجاجاتهم وصُراخهم لمعادلة الضرر. وبالإضافة إلى المشاكل الأخلاقية الواضحة مع الأنتقام، هذا المنظور يجعل غضب الطلاب يبدو موجهاً بشكل خاطئ وغير عقلاني. فالغضب الأنتقامي يبدو عادةً موجهاً إلى كل من تسبب في الأذى، ولكن الجامعات لاتتحمل المسؤولية السببية عن الأحداث في غزة.
إلا أن وجهة النظر هذهِ تستبعد الأشكال الأخرى من الغضب، حتى لوسجلت أحد أشكاله الأكثر إنتشاراً. ويمكن أن يكون الغضب أيضاً تعبيراً عن الأخطاء وتعبيراً عن الحاجة إلى المُحاسبة. أنا أكون غاضباً عندما يقوم شخص، تربطني بِهِ علاقات أخلاقية، بمخالفة تلك العلاقات. ويُعبّر الغضب عن اعتقادي بأن خطأ ما قد حدث وعبر عن ذاتهِ من خلال الأحتجاج. في الواقع، وفقاً لرأي الفيلسوف الإنجليزي بيتر فردريك ستروسون Peter Fredrick Strawson، إن العواطف مثل الغضب والسُخط تُشكل جزءاً من ردودنا الأخلاقية. إن عدم التأثير في مواجهة العُنف الموضوعي يعني فقدان جزء من إنسانيتنا.
الفيلسوفة والشاعرة الأمريكية أودري لورد Audre Lorde وصفت الغضب في أحدى المرات ’بالقُربان‘، القُربان الذي يُقدَم لِؤلائك الذين يُعانون، عمل تضامُني. لقد وجدت نفسها تُدافع عن الغضب جزئياً لأن غضب الطبقات المُضطَهَدة غالباً ما يتم رفضه من قِبل الطبقات الحاكمة بإعتبارهِ عُنفاً مُدمِراً .لقد جادلت أودري لورد، بِأن هذا النوع من الغضب يختلف عن الكراهية والإزدراء، اللذين يعتبِران في الواقع مُدمِرين تماماً.
ولكن سِواء فهمنا الغضب على أنهُ نوع من التضامن، أو هو تعبيراً عن السُخط الأخلاقي، فنحن نعترف بِأنهُ في كِلتا الحالتين يمكن أن يكون مُنتجاً. إليك كيف يصف الفيلسوف الأمريكي جيرمي بينديك كيمر Jeremy Bendik Keymer جوهر الغضب الأخلاقي:
يتقدم بشكوى ويطلب الإصلاح الأخلاقي – للعلاقة في المقام الأول، وعلى الأقل لمكانة الشخص الذي تم محوه مؤقتاً بسبب الخطأ الأخلاقي. وإذا لم يعترف المذنبون بخطئهم ، فإن المجتمع الذي يسمع الأحتجاج يمكنهُ على الأقل أن يُعزز مكانة الشخص المظلوم … إن الطبيعة العلنية للأحتجاج الغاضب تؤكد على أمرٌ أخلاقي مُهم، وبالتالي فهي تدعو إلى التضامن حيثُ أنها تدعو إلى المُحاسبة الأخلاقية.
إن هذا التقرير عن الغضب يضع الغضب في قلب الأحتجاجات الطلابية في رؤية مُختلِفة. فالطلاب المُحتجون يشعرون بمزيج من الحُزن والغضب إزاء العُنف الذي يُشاهدونه على شاشاتهم أو، في كثير من الأحيان إذا كانوا فلسطينيين، يُمارَس ضد أولئك المُقربين منهم. وهم موجودون في جامعاتهم لأنهم يرون أن هذه المؤسسات تفتقر إلى الإتساق الأخلاقي. لقد أخبرني الطلاب المُحتجين في هولندا بأنهم يعتقدون أن المؤسسات التعليمية الهولندية تُمارس معايير مُزدوجة فيما يتعلق بالحروب والعُنف. ففي حين تم إدانة الفظائع الأُخرى بِشدة، وأبرزها العدوان الروسي على أوكرانيا، دعت المؤسسات الهولندية إلى الحِياد عندما يتعلق الأمر بِغزة. ولكن الطُلاب يعتقدون أن التمسك بالحياد كقيمة أمرٌ ساخر، عندما يتم استخدامه بشكل إنتقائي ويؤدي إلى إدامة تهميش الضُعفاء.
الحِياد
لِنفترض أن هناك شيء من المعقولية لفكرة أن الجامعات يجب أن تبقى مُحايدة. فجامعة أمستردام، على سبيل المِثال، قد مَنَعت كلُ تعبير ذو الطبيعة الثقافية والسياسية و/أو الدينية في أحكامها الداخلية لمباني الحرم الجامعي مُستشهِدة بدور الجامعة كمكان مُحايد للتعليم. ويُشير مسؤولو الجامعة إلى أن المساحة الآمنة للجميع هي مساحة غير سياسية. وإذا قبلنا بهذهِ الفكرة، عندها يمكن أعتبار الغضب الطلابي في الحقيقة على أنهُ موجه بشكل خاطئ: فهو لا ينتمي إلى الجامعات.
ولكن إذا أردنا للجامعات المحافظة على حياديتها في مواجهة الفظائع، يجب أن نسأل أنفًسُنا ما الذي نعنيه بالحياد بالضبط. إن العديد من الأشياء التي يُدرِسُها الأكاديميون والعُلماء موجودة على مُستويات مُتعددة. خُذ الفسفور الأبيض على سبيل المِثال. فهو من ناحية، مادة كيميائية تُثير الفضول العلمي الموضوعي ويمكننا دراستها في مُختبر الكيمياء؛ ومن ناحية أُخرى، هو مادة كيميائية تُستخدم في الذخائر المحظورة بموجب إتفاقيات جنيف لأنها تُسبب حُروقاً من الدرجة الثالثة تصل إلى العُظام ويمكن أن تؤدي إلى فشل العديد من الأعضاء عند الإنسان. وقد كشفت منظمة العفو الدولية عن أن الجيش الإسرائيلي أستخدم قنابل الفوسفور الأبيض في هجومه على قطاع غزة ضارباً بالحائط المحاذير الدولية في عدم استخدام هذا النوع من القنابل المحظور استخدامها.
لا توجد موضوعات علمية على مستويات مُتعددة فحسب، بل أن الجامعات تُشكّل أيضاً فضاءات معيارية وسياسية بمعنى أكثر مُباشرةً. فهي تُصْدر أحكاماً تقييمية حول ما هو مُفيد في مجال العلوم. فهي تستلم وتُعطي التمويل على أساس التقييم المِعياري. لقد شاركوا في الإستعمار وتجارة العبيد. إن الجامعة، بعيداً عن كونها مكاناً نقياً مُحايدة تتكاثر فيها المعرِفة دون أن يمسها العالم، هي جامعة سياسية بكل ما تحملهُ الكلمة من معنى. ولايمكن أن تكون الجامعة على غير هذا النحو.
بإمكاننا صرف النظر عن هذهِ الحقيقة، ولكن عندها نحنُ أنفُسُنا نقوم بإختيار معياري: نتجاهل الواقع الإنساني، الذي يُشكّل ويُحفّز مَساعينا الفكرية، والعالم الذي يكون فيه للمادة العلمية معنى وأهمية.
يرفض الطلاب المُحتجون تجاهل العالم الذي يُعتَبَر تعليمهم جزءاً منهُ.
المسؤولية
الآن، قد يُجادل البعض أنهُ لايمكن تحميل الجامعات المسؤولية المُباشِرة أو غير المُباشِرة عن الوضع المُروع في غزة، وهذا يعني مرة أُخرى أن غضب الطُلاب موجه بشكل خاطئ . فهو يستهدف المؤسسات الخطأ. لكي نفهم معنى مسؤولية الجامعات، من الأهمية بمكان الفصل بين شكلين من أشكال المسؤولية: السببية والسياسية. إنني مسؤول سببياً عن حدثاً ما إذا كان ذلك الحدث قد وقع نتيجة لعمل قمت بهِ. ولكن كما جادل فلاسفة مثل المُنظِرة السياسية الأمريكية آيرس ماريون يونغ Iris Marion Young فإن هذهِ النظرة السليمة للمسؤولية لاتنطبق إلا على نِطاق ضيق من الحالات.
ووفقاً للمُنظِرة السياسية آيرس يونغ، إن المسؤولية تتجاوز إلى حد كبير الحالات التي يكون فيها الفاعل المسؤول هو الشخص الذي تسبب في الضرر. وحتى لو لم يكن الأفراد والمؤسسات مسؤولين سببياً عن الظُلم، فإنهم مع ذلك ’مسؤولين سياسياً‘. أي أنهم في وضع يسمحُ لهم بالتصرف ’بطريقة مُناسبة أخلاقياً‘ فيما يتعلق بالظُلم، على سبيل المثال بأتخاذ خطوات لمواجهته. ومن وجهة نظر آيرس يونغ، رغم أن الجامعات لم تتسبب في إندلاع العُنف في غزة، فإن مسؤوليتها لا تزال تتلخص في القيام بشيء حيال ذلك. تماماً كما نستطيع نحنُ، كناخبين وصانعي السياسات وطُلاب وأعضاء هيئة تدريس وإداريين وما إلى ذلك، أن نضمن تحقيق ’النتائج‘ الصحيحة.
ببساطة: إذا سَقَطتَ من فوق دراجتك لأن شخصاً ما دفعك، فأنا لستَ مسؤولاً بشكل مُباشر أو غير مُباشر عن سقوطك. ولكني مسؤولاً عن مُساعدتك على النهوض من على الأرض. وهذا النوع من المسؤولية مدموج في نسيج علاقتنا الإجتماعية. ولهذا السبب لاتستطيع الجامعات أن تتخلى عن مسؤولياتها تجاه الظُلم لمُجرد أنها ليست مسؤولة سببياً عنهُ. وما دامت الجامعات في وضع يسمح لها بفعل شيء لتحسين الوضع، فإنها تظل مسؤولة سياسياً.
لِنأخذ القضية الهولندية. بينما الجامعات في هولندا ليست مُتورطة في الحرب على غزة بشكل مُباشر(خلافاً للدولة الهولندية، التي تبيع بطريقة غير قانونية طائرات أل F35 المُقاتلة لإسرائيل)، فهي من الناحية السياسية تظل مسؤولة. بإمكانها، مثلاً، تعليق العلاقات مع المؤسسات والشرِكات الإسرائيلية، في حين تدعم الطلاب والمؤسسات الفلسطينية التي تتعرض للهجوم. وبإعتبارها مؤسسات تعليمية قوية تحتل مكانة مهمة في المشهد الوطني والدولي، فإن الجامعات قادرة على إحداث فرق من خلال اتخاذ مواقف أخلاقية. وهذه هي المسؤولية التي يريد الطلاب من الجامعات أن تدرِكُها.
وفي نفس الوقت، صحيح أن للغضب حدوده. إن التركيز على عواطفنا كشهود على الفظائع هو احترام للذات، لأنهُ يضع أنفسنا كأولوية بدلاً من الفظائع التي تُرتَكَب.
وعلاوة على ذلك، وكما تُشير فيلسوفة الأخلاق مارثا نوسباوم Martha Nussbaum، أن الغضب والعُنف وحدهما لا يؤديان إلى التغيير: فهما غالباً ما يكونان قصيري الأجل. أتذكر السخط المُستمر إزاء معاملة المهاجرين في أوروبا في ذروة “أزمة المهاجرين” في عام 2015: في عناوين الصُحُف، وفي الإحتجاجات المُتكررة، وفي فصول الدراسة. والآن يُعاني المهاجرون في ظروف لا تُطاق في مُعسكرات مُختلفة في جميع أنحاء أوروبا ويستمرون في فقدان أرواحهم بأعداد كبيرة على حدود وسواحل أوروبا – كُلُ هذا، بينما يُحقق اليمين المُتطرف البغيض إتصاراً سياسياً تِلو الأخر. لقد ولت تلك الأحتجاجات الصاخِبة للمهاجرين عندما كانت هناك حاجة ماسة إليها.
الغضب مؤقت؛ ما نحتاج إليه هو إلتزامات بالعدالة بُنيوية ودائمة. حيثُ يمكن أن تكون المؤسسات المُستقرة والمجتمعات والجامعات قواعد لهذهِ الإلتزامات.
التضامن
كطُلاب أو مُعلمين، نحنُ مرتبِطون بعضنا البعض ليس فقط كأعضاء في مجتمع أكاديمي، ولكن أيضاً كأعضاء في مجتمع أخلاقي. أتساءل، كيف يُمكننا أن نقف مع زُملائنا الأكاديميين الفلسطينيين في غزة عندما نفشل في إدانة إبادتهم؟ لقد دمرت إسرائيل كل جامعة في غزة من خلال الغارات الجوية وعمليات الهدم والتدمير المُخطط لها. وبحسب المرصَد الأورومُتوسطي لحقوق الإنسان، فإن الهجوم الإسرائيلي على غزة أسفر عن مقتل 94 أستاذاً جامعياً “فضلاً عن مئات المحاضرين الجامعيين وآلاف الطُلاب”. هذا ناهيك عن مصير المدارس في غزة والتلاميذ الذين كانوا يرتادونها ذات يوم، حيثُ أصبح الآلاف منهم يتضورون جوعاً، والآلاف منهم مُشوهين، والآلاف منهم قتلى.
لاينبغي لنا أن نخشى غضب الطلاب الذين يفرضون على مؤسساتهم الألتزام بالمعايير الأخلاقية. بل ينبغي لنا أن نخشى المؤسسات الجوفاء أخلاقياً التي تفشل في تحمل المسؤولية السياسية في مواجهة الفظائع.