“غيّرتُ موقعي ولم أغيّر موقفي!”
كانت شقة الكاتب السوري سعيد حورانية في موسكو مطلع السبعينات بمثابة صالون أدبي يجتمع فيه لفيف من الأدباء والمستعربين في نقاشات حول مواضيع شتي لا تنتهي حتى منتصف الليل. فبالإضافة إلى كونه محرراً للنسخة العربية من نشرة “أنباء موسكو”، كان حورانية شخصية تتسم بالمرح والديناميكية وسعة الإطلاع مما جعله محبوبا لدى الجميع. أواخر يناير من عام ١٩٧١، أقام سعيد أمسية خاصة حضرها مجموعة صغيرة من الأصدقاء لتوديع الشاعر الشاب محمود درويش الذي أنهى فترة دراسته في المدرسة الحزبية العليا (كان مبتعثا من قبل حزبه ( راكاح) في دورة حزبية مدتها عام).
حسب المعلومات التي وثّقها الكاتب والباحث المصري سيد محمود في كتابه الشيق (المتن المجهول – محمود درويش في مصر – نصوص ووثائق تنشر للمرة الأولى – منشورات المتوسط ٢٠٢٠) نجد وصفاً موجزاً لما دار في تلك الأمسية: “بدا محمود في ذلك اليوم لطيفاً وحلو المعشر وكان يصغى بإهتمام إلى أحاديث الآخرين معه، لكنه كان في الوقت نفسه شارد الذهن، وغالبا ما كان يختلي مع عبدالملك خليل مراسل “الأهرام” بموسكو في المطبخ ويدور بينهما حديث خاص. لكنه أكدّ للحاضرين بأنه عائد إلى إسرائيل.”
بعد تلك الأمسية بأربعة أيام ودعه أصدقائه في مطار موسكو. فوجئ الأصدقاء بإجهاش درويش بالبكاء علىى نحو غير متوقع وهو يودعهم. ما لم يعلموه هو أنه بمجرد وصوله إلى مطار نيقوسيا ( ترانزيت)، غيّر وجهته الى القاهرة، التي وصلها مطلع فبراير 1971، بعد مرور سنين على رحلته من موسكو الى القاهرة، سيكشف درويش عن سبب بكائه: ” في مطار موسكو فوجئ أصدقائي بأنني انفجر بالبكاء. لم يكن بكائي على اصدقاء أودعهم. لكن بكائي كان على الذين لم أكن عائدا إليهم… لم أكن عائدا إلى الوطن.”
وصف درويش شعوره لحظة وصوله القاهرة: “دخلتُ القاهرة ليلاً، ومن فرط انتظاري لهذا الوصول فقدت الشعور بأي شئ .. لم أعرف أين أنا … كان انتقال شديد، وقاطع، وقاسي .. بين ما كنت عليه، وما أنا فيه… كان أصعب قرار في حياتي … في الليل فتحت النافذة لكي أتأكد من المكان الذي أنا فيه .. فرأيتُ نهراً عظيماً هو نهر النيل … وكان النيل هو الذي قال لي في ذلك الليل أنني في القاهرة”. في أول صباح له، تجوّل في الشوارع التي أصابته بالدهشة التامة: “في القاهرة رأيت مدينة بكاملها تتكلم العربية، ورأيت أسماء الشوارع باللغة العربية، فمسني ذلك مسّاً عاطفياً…كان هناك تأهب نفسي للإلتقاء بروحي العربية”. سيكتب لاحقا “أحببت القاهرة كما أحبّ حيفا، ووجدت أن جمال القاهرة كان مشوبا بالحزن، كأنك تشعر أن في قلبها شيئاً مكسوراً.”
ما بين مغادرة درويش موسكو أواخر يناير ، وخبر الإعلان الرسمي لوصوله القاهرة مطلع فبراير، هناك فجوة زمنية بمقدار إسبوع … أين إختفى فيها ؟ وفق ما ذكره سيد محمود في كتابه الآنف الذكر، أبقت السلطات المصرية خبر وصول درويش إلى القاهرة طي الكتمان لمدة إسبوع واحد، قبل الإعلان رسمياً عن وصوله في مؤتمر صحفي لاحقاً. خلال ذلك “الأسبوع السري” تمّ ترتيب جولة لمحمود درويش الى أسوان والأقصر ليقضي “فترة راحة يستجمع فيها قواه وأعصابه المرهقة”. رافقه الإذاعي في “صوت العرب” عبدالوهاب قتاية الذي وصف لقائه بمحمود درويش: “تعانقنا بحرارة، كان نحيلاً جداً، ورقيقا كالطيف، حتى إنني أشفقت عليه وأنا أعانقه أن تتكسر عظامه بين ذراعي”.
بعد إنقضاء الإسبوع ، جاء اليوم التاريخي في صباح الخميس ١١ فبراير ١٩٧١ بمبنى الإذاعة والتفزيون المصري ليتم الإعلان رسميا عن وصول محمود درويش الى القاهرة. هناك صورة شهيرة تبيّن درويش متوسطاً وزير الإعلام المصري محمد فايق، ومدير إذاعة صوت العرب محمد عروق وخلفهم صورة للزعيم الراحل جمال عبدالناصر (مضى علي وفاته بضعة شهور). بدأ درويش بقراءة بيانه الشهير في المؤتمر الصحفي الذي أوضح فيه أسباب مغادرته إسرائيل واختياره للقاهرة. هناك ثلاثة مسائل تلفت الانتباه في ذلك البيان: أولا أنه إعتبر مسألة وجوده بالقاهرة “مسألة شخصية يتحمل وحده مسئولية اختيارها”، وأنه “سيبذل جهده للحيلولة دون تحويلها الى موضوع للمناقشة والأخذ والرد”. درويش يشخصن القرار متعمدا، لإبعاد كل من حزبه، وأجهزة السلطات المصرية (الدولة العميقة) عن أي شبهة محتملة تشي بوجود أجندة سياسية مخطط لها مسبقاً. ثانياً أوضح بأنه أصبح “مشلول الحركة تماما ومشلول الحرية في التعبير … وبأن شعرة معاوية بيني وبين القانون الإسرائيلي قد إنقطعت وأن طاقتي على الاحتيال والتجاوز قد نفذت”. ولكنه لم يلجأ الى المنفى سعياً وراء حياة هادئة مستريحة (إسرائيل كانت تشجع فلسطينيي الداخل إلى الهجرة الى كندا آنذاك)، بل إختار القاهرة بالتحديد لموقعها النضالي الرائد، كما أشار إلى ذلك الكاتب رجاء النقاش لاحقاً. ثالثاً أعاد درويش طرح السؤال الذي طالما أرّقه منذ مهرجان صوفيا في بلغاريا قبل سنتين، ولكن هذه المرة في بيانه بالقاهرة: “من أنا؟ هل أنا مواطن إسرائيلي بمحض إختياري، أم مواطن عربي فلسطيني، وإذا كنتُ كذلك ففي أي صف أقف؟ ” ويحسم أمره بالقول: “أصبح تناقض الإنتمائين أشد إلحاحاً وتعذيباً. لم يعد ممكناً أن أجاور بين هذين الانتمائين” .
بعد عقود طويلة سيحدد درويش في في نص بعنوان “الفرح …عندما يخون” المأزق الوجداني الذي كان يواجهه بوضوح أكثر دقة، عبر تمييزه بين خيارين/ حالتين (أن تبقى في الداخل، أو تناضل من الخارج). الحالة الأولى شعارها “كل شيء يبدأ من الداخل، من المطالب الديموقراطية القائمة على الاعتراف بالأمر الواقع”، سيتبعها حسب قوله: “أن يتعمق إحساسك بأنك مواطن عربي في إسرائيل” وأن تواصل “العمل السياسي المتواضع الذي تمارسه، ضمن دائرة الممكن، وفي إطار القانون الإسرائيلي”. بينما الحالة الثانية شعارها “كل شيء يبدأ من الخارج، بدون هزيمة عسكرية تلحق بإسرائيل، لا يمكن أن تحدث تغيرات جوهرية داخل المجتمع الإسرائيلي”. في هذه الحالة التي يراها درويش كرد فعل على العنف الاسرائيلي “سيتعمق رفضك لهذا الانتماء (أن تكون مواطنا في اسرائيل) وتمارس انتماءاتك الحقيقية كما تختارها أنت”. (محمود درويش – الأعمال النثرية الكاملة – المجلد الأول – ص ٣٦٤). بذهابه إلى القاهرة حسم درويش خياره باتجاه الحالة الثانية.
كما حدث إبان مشاركته في مهرجان الشباب والطلبة في بلغاريا ١٩٦٨، فإن ردود الأفعال على قرار مغادرته النهائية فلسطين المحتلة وانتقاله الى القاهرة شهدت إنقساماً حاداً آنذاك مابين مؤيد (مصري في غالبه)، ورافض (غسان كنفاني – اميل حبيبي – سميح القاسم وغيرهم). بتاريخ ١٢ فبراير ١٩٧١ نشرت جريدة الاتحاد الناطق الرسمي باسم الحزب الشيوعي الاسرائيلي خبر المؤتمر الصحفي لمحمود درويش تحت عنوان “غيّرت موقعي ولم أغيّر موقفي”. لم يتضمن نص الخبر أي هجوم على درويش، بل نقل بأمانة حيثيات بيان درويش بالمؤتمر، كما افادت الصحيفة بأن “الهيئات المختصة بالحزب ستبحث في هذه القضية” ليصدر بعدها بأيام قرار فصل محمود درويش من عضوية الحزب. وبذلك أسدل الستار على مرحلة هامة في سيرة محمود درويش الفكرية والسياسية. ما يلفت النظر هو خلو انتهاء العلاقة بين الحزب ودرويش من أي نوعٍ من التشهير أو التجريح بينهما، بل إحتفظ الطرفان بعلاقة ود وإحترام لعقود طويلة قادمة (هل كان طلاقا بالتراضي ؟) . من أكثر المواقف المعارضة حدة ما جاء في صحيفة “الحوادث” البيروتية بقلم ربيع مطر ( رجاء النقاش يرجح أنه أحد الأسماء المستعارة لغسان كنفاني): “يا محمود يا أحلى ابن تفتح له الأمة العربية ذراعيها…نحن في مرحلة العودة والإصرار على البقاء، انتهت والى الأبد مرحلة الهجرة …فليتك تعود إلى إسرائيل ..إلى السجن، ليتك تعود مهما كان الثمن الذي ستدفعه من حريتك وحتى من فنك وشعرك..عد فقد اخترت وليس لك أن تتراجع…في مثل وظيفتك هذه، الاستقالة ممنوعة.” في حقيقة الأمر نعلم بأن محمود درويش لم يستقل من نضاله، بل سلك خياراً فردياً (الخروج) بالتعارض مع مبدأ عام (البقاء). هذا التنازع الظاهري بين الاثنين ربما سيكتسب معنى مختلفاً فيما لو حاولنا فهمه ضمن منظور الوسيلة والغاية؛ تخرج لماذا؟ تبقى لماذا؟
بعد مؤتمره الصحفي بمبنى الإذاعة والتفزيون المصري، إلتحق درويش بالعمل في إذاعة صوت العرب، إلا أن موجات التشهير به والتنديد بقراره الخروج من إسرائيل في صحافة العالم العربي لم تتوقف بل ازدات حدة (لا نعلم ماذا سيكون مصيره لو توافرت آنذاك وسائل التواصل الاجتماعي). في البداية قرر درويش إلتزام الصمت، إلا أنه قرر بعد شهرين أن يفجر غضبه على منتقديه في نص سياسي نثري حاد كالسكين. ففي مقال بعنوان “هل تسمحون لي بالزواج”، يتسائل درويش ساخراً: “إن قصة حياة شاعر ستتحول طيلة شهرين كاملين الى أحد القضايا الرئيسية في حياة العرب. حدث ذلك في الجاهلية! فهل يراد لنا أن نعود إلى الجاهلية؟ “. ثم يواصل قوله بأنه “ليس راقصة بطن” قادرة على انتزاع حب الناس من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وليس أسطورة لأن من شأن ذلك أن يجرد قضيته من جوهرها ويُحوّلها إلى بطولة فردية (وهو ما يرفضه)، ثم يقذف بحجته في وجه المزايدين عليه “لماذا حين تحاكموني تنسون أنكم تدعون إلى تحرير الوطن المحتل وأنتم في الخارج؟ .. ومن يطالبني بالعودة إلى إسرائيل حتى إلى السجن، لماذا لا يقوم بهذه المهمة؟”، وأخيراً ختم مقالته بتساؤل: “هل تسمحون لي بالزواج أم أن الزواج يتنافى مع المهام الثورية وتحرير فلسطين؟”.