ماركيز في (الحُبّ في زمن الكُلوليرا)
مَنْ غير غابرييل غارثيا ماركيز، بإمكانه صنع هذا الجمال الروائي، وبناء أحداث مهولة بمخيال أدبي غني كالذي في روايته الخالدة “الحبّ في زمن الكوليرا”، فإذن لا غرابة من أن نقول بأن هذه الرواية واحدة من أجمل روايات القرن العشرين. وكما غوستاف فلوبير في روايته “مدام بوفاري”، صاغ ماركيز روايته باقتدار، حيث لا تكمن قيمة كلّ جملة من الجمل الواردة فيها في معناها، وإنما في قدرتها على الإبهار، لا من حيث الصياغة فقط وإنما من حيث الحبكة والعرض والأسلوب والدقة والقوة في السرد.
حققّ ماركيز في هذه الرواية معجزة حُبّ مستحيلة في الواقع العملي عندما لجأ لأسلوب مراوغ، ولا يخطر على بال، في حبك أحداث الرواية، إذ انتقل من خاتمة حياة زوج وموته لبداية علاقة عاطفية مع الزوجة الأرملة مع الفتى، الذي أصبح كهلاً، وجمعت بينهما علاقة حب في سنوات الصبا، حيث رفض والدها تزويجها إياه، وأخذها بعيداً عنه حتى نسيته تماماً، للدرجة التي حملت والدته، ونتيجة لمعاناته في تلك الفترة، على الاعتقاد بأنه أصيب بمرض الكوليرا: “فقد القدرة على التوجّه وعانى من إغماءات مفاجئة، ففزعت أمه لأن حالته لا تنتمي إلى اضطرابات الحب وإنما إلى اختلاطات الكوليرا”.
العاشق المتيّم بالأرملة يبرز من بين المعزين بوفاة زوجها وهي في مصيبتها، مرتدياً ملابس الحداد على الرغم من أنها قد محته من حياتها منذ سنوات طويلة، “كانت هذه المرّة الأولى التي تراه فيها بوعي طهّره النسيان. ولكن قبل أن تتمكن من شكره لهذه الزيارة، وضع قبّعته فوق موضع القلب، وشق الدُّمل الذي كان قوام حياته بأن قال لها بصوت مرتعش ووقور: “فيرمينا … لقد انتظرتُ هذه الفرصة لأكثر من نصف قرن، كي أكرر لك مرة أخرى قسٓم وفائي الأبدي وحبي الدائم”.
أليس جنوناً أن يقدم كلاهما على إعادة علاقة حب مضى عليها خمسون عاماً وقد أصبحا في أعمار تجاوزت السبعين؟
لغابرييل ماركيز رأي آخر إذ يقول “لقد عاشا معاً ما يكفي ليعرفا أنّ الحب هو أن نحب في أي وقت وفي أي مكان، وأن الحب يكون أكثر زخماً كلما كان أقرب إلى الموت”. إنه لحب عاصف احتفظ فيه فلورنتينو أريثا بقلبه لفيرمينا وحدها رغم العلاقات الغرامية التي راكمها طوال واحد وخمسين عاماً وتسعة أشهر وأربعة أيام بعد زواجها بالطبيب الثري خوفينال أوربينو والتي وصلت إلى 662 علاقة.
بعد كل تلك المدة وبوفاة زوجها يعترف لها للمرّة الثانية بحبه لها، وكأنما هذا الحب أصبح مُخلداً أو بتعبير آخر مؤبدًا.
مقدار الفرح الذي تملك فلورنتينو أريثا بموت زوج حبيبته والأمل الذي راوده بإعادة العلاقة من جديد مع الأرملة صوّره غابرييل ماركيز بصورة واضحة تثير الإعجاب، “كان يعرف منذ زمن أنه مرصود لإسعاد أرملة وأنها مرصودة لإسعاده، فاستعادة فيرمينا داثا كان هدف حياته الوحيد، وكان متأكد من أنه سيصل إليه عاجلاً أم آجلاً”، حتى إنه أقنع والدته “بمتابعة إعداد البيت ليكون مناسباً لاستقبالها في أية لحظة تحدث فيها المعجزة”. وافقت والدته فاشترت البيت ورممته، وخصصت للأبناء الذين سنجبونهما غرفة.
تصوير جميل ومضحك عندما يبرز لنا الكاتب كيفية تغيّر الأحوال لملاقات الحبيب لحبيبته بعد كل تلك السنين، وقد رأت فيرمينا ذلك أثناء الرحلة البحرية التي قاما بها “بدا لها مختلفاً، ليس لأنها رأته بعينين أخريين حينئذ، وإنما لأنه كان مختلفاً بالفعل. فبدلاً من الملابس الجنائزية التي ارتداها طوال حياته، كان ينتعل حذاءً أبيض ويرتدي بنطالاً وقميصاً من الكتان، مفتوحاً عند العنق وأكمامه قصيرة، وعلى جيبه الذي فوق الصدر نُقشت الحروف الأولى من اسمه. وكان يعتمر قبعة أسكتلندية، بيضاء اللون أيضاً، ويضع نظارة ذات عدسات قاتمة فوق نظارة ضعف النظر الأزلية”.
حبّ من هذا النوع خارج عن المألوف لا يمكن أن يكون طبيعياً، ولكن إبداعات ماركيز لا تقف عند حدّ، إذ طوع بطلي الرواية بحنكته لإخراجهما من كل ورطة واجهتهما طوال مسيرتهما العشقية إن صح التعبير، وذلل العقبات لاستمرار هذا الحب، رغم وجود أبناء للحبيبة البالغة من العمر عتيا، إضافةً للموانع الاجتماعية: “إنهما يجلسان معاً للمرة الأولى، لا تفصل بينهما سوى هذه المسافة الضيقّة، ولديهما فائض من الوقت ليرى كل منهما الآخر بهدوء، بعد نصف قرن من الإنتظار. ولقد رأى كل منهما الآخر كما هما: عجوزان يترصّدهما الموت”.
كان هذا الرجل أي فلورينتينو أريثا أقرب إلى الرجل الملهم بالروح القدس كما قالت العمّة اسكولاستيكا من خلال التصرفات والأفعال التي يقوم بها من أجل حبيبته، فكانت رسائله إليها جد نبيلة لمحو الماضي وليست محاولة لتكرار سفاهة تصريحه لها بالحب للمرة الثانية، أي بعد وفاة زوجها وليست كما “الليلة التي كرر فيها عرض حبه، حين كانت أزهار زوجها الميت لا تزال تعبق في جوّ البيت”.
رواية لم أقرأ أجمل منها، تقع في أربعمائة واثنين وأربعين صفحة، كل صفحة فيها تعبق برحيق فلسفة ماركيز في الحياة وحكمه وأحكامه على الوقائع، فيها من الأحداث التي مرّت بها بلده الكثير وفيها من العبر أيضاً الكثير، ولا أظنني سأصبر كثيراً على إعادة قراءتها مرات أخرى، فهذة الرواية جديرة بذلك لثراءها وللاستزادة والاستفادة من قوة الطرح وجمال الأسلوب والعمل الدرامي المذهل.