أيام حياة الماعز

0
195

يتبادل شابان هنديان الابتسام، حين نطق أحدهما “الكفيل”؛ تباهياً بمعرفته بأول كلمة عربية في المطار عند وصولهما، دون إدراكٍ منهما أن هذا المعنى سيتحول إلى أسوأ كابوس في حياة الشابين اللذين وقعا في فخ غير متوقع على الإطلاق، ولتطبق الجملة التي ظهرت في التتر النهائي للفيلم “كل الحياة التي لم نختبرها عبارة عن قصص بالنسبة لنا”.

ومفردة “الكفيل” -نشأت- أصلاً بناء على الوجود البريطاني في الخليج، وكانت البحرين هي البادئة في تبلور هذا النظام على دول المنطقة؛ حيث أتى تزامناً مع تعيين أول وكيل سياسي بريطاني في البحرين في العام 1904م، وتدخلهم في إدارة الأمور الداخلية للبلاد، وتوسعة نفوذهم، ومنها بالتنازل والسيادة على كل الأجانب في البلاد. وبناء عليه، تم تقسيم القاطنين في البحرين إما إلى أجانب تحت حكم وسيادة البريطانيين، وإما إلى رعايا محليين تحت سيادة الحاكم المحلي. وفيما بعد، جاء نظام الكفيل الذي تبلور تدريجياً مع الوقت؛ بحيث يتحمل فيها الكفيل المسئولية القانونية للوافد ضمن المساحة الجغرافية للدولة، ولا يحق للمكفول قانوناً أن يدخل ويعمل فيه إلا من خلال كفيله. ورغم تغير هذا القانون جزئياً، وجعل جزء منه مرناً يحق فيه للأول تغيير مكان عمله، لكن يبقى أن جوهر نظام الكفالة يتمثل في تفويض الدولةِ السلطةَ على الوافد لدخول البلد والعمل فيها إلى المواطن صاحب العمل.[1]

ولا يروق هذا الشكل من التعامل للكثيرين ممن يرون فيه تحديداً وإلزاماً، في حين أنه غير مطبق في بقية الدول العربية أو الأجنبية، لكن لكل دولة شروطها وقوانينها التي تحترم وتطبق على الجميع، ووجود الشخص في بلد ما هو موافقة ضمنية على اتباع نظامه. وقد استخدم هذا المفهوم مؤخراً عن رواية الكاتب الهندي Benyamin، والمستوحاة من قصة حقيقية حدثت في أوائل تسعينات القرن الماضي؛ إذ كتب روايته Aadujeevitham التي أحدثت صدى كبيراً في الأوساط التي تقرأ اللغة المالايالامية المكتوبة بها، وهذا ما دفع صناع فيلم The goat life إلى الحصول على الحق في تنفيذ الفكرة سينمائياً، وقد كان؛ إذ استغرق الإعداد لهذا الفيلم سنوات من التحضير والتنفيذ في مواقع مختلفة، لمحاكاة الحياة التي عاشها قسراً بطل الحكاية “محمد نجيب” القادم من كيرلا في الهند برفقة “حكيم”، وفي مطار الوصول لا يأتي الكفيل، ويقوم آخر بالتقاطهما مستغلاً عائق اللغة والبراءة الظاهرة على محيّاهما، ليبدأ فصل الشقاء.

من الطبيعي جداً أن يكره المشاهدُ شخصيةَ الكفيل الذي قام بها الفنان العماني القدير طالب البلوشي، وأجادها لدرجة الاستفزاز؛ فهو لم ينادِ نجيب باسمه طوال الثلاث سنوات والنص التي قضاها معه، بل كانت الألفاظ البذيئة هي المفضلة عنده، حتى في الحديث العادي، وفي المرات القليلة التي لم يشتمه فيها كان يناديه بـ”الهندي” المقرونة بالنكرة، وليس بناء على جنسيته، حتى أنه لم يحاول أن يعرف اسمه، ولو من باب الفضول! مزَّق جواز سفره وأوراقه الشخصية أمامه حتى يقطع الأمل تماماً لدى نجيب في أن يتجرأ على التفكير بالهرب أو الخروج. وشخصية كهذه يمكن توقع طريقة تعاملها التي تصل للسُّخرة في استعباد الضعيف وإذلاله. وقيل إن من يتحكم بالخبز، يحكم. الكفيل هنا حققها بالفعل في محاولاته لـ”تدجين” نجيب حين ناداه مرات عدة، والأخير يجلس بحقيبته خارج الخيمة، معلناً اعتراضه على الوضع، أو لإيجاد وسيلة للتفاهم على الأقل، وكل ذلك لم يجد نفعاً. فقد فهم الكفيل آلية التفاهم المناسبة حين لوح له بالخبز الحاف -وهو الذي أظهره العمل السينمائي أنه يأكل بشكل معتاد وجبة البرياني بلحم الضأن في منزله بكيرلا- وسرعان ما أتى له بالفعل بعد أن أنهكه الجوع والعطش معاً، لكن هذا كان بداية الاستسلام التدريجي المرغم، الذي حول شكل الشاب الهندي الوسيم إلى كائن آخر، مقهور، ذي مواصفات شكلية مغايرة عن تلك التي قدم بها. ويبين أحد بوسترات الفيلم، المرفق بالمادة، هذا الاختلاف الذي قد لا يلاحظ تغييراته الدقيقة في تفاصيل اللون، والشعر، والأظافر، والهيئة بشكل عام.

جرت الأحداث الحقيقية بين أبريل 1992م، وحتى أغسطس 1995م، كما يذكر أكثر من مصدر، ويبدو من كل تفاصيل الفيلم أنها أيضاً نفس الفترة المذكورة. وهنا قام المخرج بتحديد الزمان والمكان حتى لا يكون هناك أي منفذ للتواصل؛ عبر أشخاص، أو عبر مكالمة من هاتف متنقل، فتنتهي كل المعاناة من البداية!

طُرُق دفاع المخ عن الوحدة والصدمة والإنكار تتخذ أساليب متعددة، قد يختلف فيها البشر، وقد يتشابهون. كما يدفع “نجيب” المشاهدَ لتذكر فيلمين بارزين؛ أحدهما (المنبوذ) Cast away الذي جسده ببراعة توم هانكس، الأول في مسألة الوحدة القسرية التي فرضت على البطل جراء وجوده على جزيرة غير مأهولة، فيضطر للتأقلم بما هو متاح، حتى أنه يتأخذ من كرة طائرة أُنساً له في وحدته، ويطلق عليه/ها “ويلسون”، ويتعلق بهذه العلاقة حتى يتوحد المشاهد معه في ألمه حين فقد الكرة! وهذا كان نجيب مع البهائم التي رعاها باهتمام وحب طول فترة إقامته، حتى عز عليه مفارقتها حين قرر الفرار مع حكيم، الهندي الآخر، وخضيري، الأفريقي الأسود الذي ظهر واختفى مثل ملاك حارس قام بمهمته في تفاصيل توفير “الحياة” لحياتهما. والآخر فيلم life of Pi )حياة باي)، والثاني التي دفعته ظروف تحطم السفينة في أن يكون ناجياً وحيداً من الغرق على سفينة كان بها عائلته وحيوانات، لم يتبقَّ من كل هؤلاء إلا نمر شرس قاسمه القارب الصغير، ورحلة خوفه، حتى افترقا. والظروف القاسية مختبر الإيمان. نجيب وباي فقدا الاتصال بالله -أو أوشكا على ذلك- بالإلحاح في الدعاء دون تغيير، ليأتي السؤال: لِمَ أدعوه؟ لو كان موجوداً لاستجاب! لكن العناية الإلهية رسمت أقداراً جديدة حين أظلمت كل الطرق تماماً.

وإلى هنا تنتهي القصة العاطفية -كما أطلق عليها مخرج العمل -Blessy التي تجبر المشاهد على التعاطف التام والشديد مع نجيب ورفيقيه، وغيرهم ممن يغادرون أوطانهم سعياً للرزق الحلال في مناكب الأرض، وتندد بأفعال الكفيل الذي لم تظهر عليه صفة إنسانية واحدة، جسدها البلوشي بمنتهى البراعة، حتى في حدة نظراته التي نفرت المشاهدين، وساهمت في تعميق المعنى السلبي لصفته. ولا يمكن إنكار حجم التعاطف للبطل. لكن حين نعود للتفاصيل، نجد أن نجيب لجأ إلى معارف وأقارب من أجل السفر والعمل في المنطقة هنا، وليس إلى جهة معتمدة، لرحلة دفع فيها قيمة بيته المرهون ثمناً لقدومه، وهذا أول مأخذ يتحمله شخصياً، ولا لوم عليه للمجازفة؛ حيث دفعه الفقر وقلة الحيلة لخوضها! لكن ما أكثر النصابين، وكذلك الحالمين بالرغد والحياة السهلة: غرفة مكيفة، وطعام جيد، ورزق وفير. الأمر الآخر هو الجهل بالأبجديات للبلد المسافر إليها. فقليل من المعرفة لا تضر، رغم أن هذا لن يمنع أن يظهر شخص كالذي خطفه هو ورفيقه، واستعبدهما في الصحراء. هل كان الأمر محض صدفة، أم أنه معتاد على هذا “الاصطياد”، والراعي الهندي العجوز لديه هو أحد ضحاياه بالفعل؟

والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: لِمَ تم ربط موضوع الفيلم، في كل ما تناوله، عبر رأي انطباعي أو نقدي عن الكفيل غير الموجود فعلياً داخل العمل؟ هل نكأت ملامسة موضوع الكفيل، الحساسة جداً، والتي نشأت في الأساس من أجل الضبط عبر تفويض المسئولية، جروحاً لا تبرأ حتى مع التعديلات التي طرأت على هذا القانون في السنوات الأخيرة؟ يمكن تفهُّم أن يشهد هذا الموضوع، عبر تاريخه، حالات مختلفة بين ربط الموضوع بعبودية حديثة، ونظام سُخرة تهيئه القوانين الموضوعة، وفي الحالات التي يظهرها الإعلام من خلال الشكاوى، أو قصص تعذيب واهانة، أو حبس وتجويع، كثيرة، أو حين يُستغَل العامل على العمل مجبَراً أكثر من نصف اليوم حقيقة دون إجازة أسبوعية، ولا حتى شهرية، أو في حالات عاملات المنزل اللاتي يعملن في بعض البيوت طول الوقت، متى ما استدعت الحاجة، وبالتأكيد هناك حالات استغلال عديمة الإنسانية، أصغرها دفع مقابل مادي للكفيل من أجل البقاء داخل البلد وجمع المال بأي طريقة تمكن المكفول من الوصول إلى هدفه، أياً كانت الطريقة للطرفين المستفيدين على حساب البلد! لكن الفارق عظيم عند المقارنة بالحالات المتضررة، المعلنة منها وغير المعلنة، في حيث أن الأعداد التي تعمل في الخليج تقدر بتسعة ملايين هندي على سبيل المثال، بخلاف الجنسيات الأخرى، عدا أن جزءاً كبيراً منهم مستقر مع عائلته في المنطقة، دون نية للعودة.

وعودة لقصة الفيلم، التي استخدمها المخرج لعرض حادثة “نجيب محمد”، المبنية على أحداث حقيقة في الرواية المذكورة، وهذا حقه الخالص في خلق تصوره الفني؛ في تحويل السرد إلى صورة مرئية، وتقسيمه للقطات ومشاهد، لكل لقطة حجمها/ زاوية الكاميرا/ التكوين/ الألوان/ حركة الكاميرا/ حركة الممثل/ في توصيل المعنى الدرامي كما في تصوره هو، بوصفه سيد العمل. والحقيقة أن الفيلم لا يخلو أبداً من الجماليات الفنية، والتشكيلات البصرية فيه رائعة، كما تم استثمار جمال البياض والفراغ والسكون، وإظهار اللوحات الربانية في الصحراء. وطالما أن العمل قد ظهر للنور، فمن حق أي مشاهد أن يراه بتصوره أيضاً. وقد برع العمل في الاشتغال على تقنيات عالية المستوى في الدمج بين فترات نجيب، محور القصة المشاهدة، وما قبلها، بشكل يستدعيها لصالح حياته في بلده؛ هذا النجيب المخطوف، جار النهر، صديق الماء، الذي -أراه شخصياً- استخدمه العمل ثيمة فارقة في حياة البطل، قبل وبعد، وكيف تحول إلى النقيض؛ حيث خشونة الصحراء وعطشها في اللقطة الرائعة فنياً، التي دمج فيها وقوعه معنفاً من قبل الكفيل قرب الماء المنهمر من الخزان الصغير، محدود الاستعمال، إلى استمتاعه الحر بالسباحة في النهر المقابل لبيته. كيف شرب من حوض البهائم مضطراً، وكيف استخدم المُخرج الماء في إغداق نفسه به حين قرر الهروب، وكأنَّه معادل موضوعي للعودة إلى الحياة. وعلى هذا النحو بين النقائض التي بيّنت أن الكفيل لا علاقة له بالماء والنظافة؛ لأن رائحته الكريهة كانت أول شيء لفت انتباه الهنديين. وعلى المستوى الآخر، نجد تقنية تشكيل الكفيل، بالإضافة إلى طباعه التي لا تطاق، كونه فظاً وعنيفاً ومسيطراً وبخيلاً بطبيعة الحال، بنفس تقنية شخصية “البشمهندس” في فيلم دعاء الكروان التي قام بها الممثل المصري الراحل أحمد مظهر؛ حيث لم يعرف لهما اسم غير الصفة التي تدل عليهما، وكلاهما استغلا الآخرين بطريقتيهما.

هذه الإجادة التي وضعها الفنان طالب البلوشي في أدائه، خلَّفت اتهامات شخصية لا تُحصى بالنسبة له، ولا علاقة لها بأدائه الفني، وصلت إلى التأجيج بين الدول، ومحاولة استثمار الفيلم في تصدير هذه الصورة السلبية عن الخاطف/ الكفيل السعودي، والمعني به ضمناً الخليجي الذي يخضع بلده لقانون الكفيل، في الخصوص، وأي عربي مسلم في العموم؛ إذ وضع الفيلم طرفي الفيلم: نجيب والكفيل -المسلميْن- في المقارنة غير المباشرة حين يتضمن حوار الثاني ذكر الله قياماً وقعوداً دون إقرانها بفعل خير واحد، جعل من هذا الذكر عادة لفظية معتادة على لسانه، في حين أن أفعال المسلم الهندي الخيرة، المطلقة، حتى في وقت هروبه الثمين، لم ينسَ إطعام رعاياه من الإبل والخرفان قبل أن يترك المكان.

أما العبارة التي أوردها الفيلم في بدايته “هذا الفيلم لا يحمل إساءة لأي دولة أو شعب أو مجتمع أو عرق” فهي عبارة مجوفة، تكتب لبراءة الذمة. لكن ماذا عن تحديد المكان والدولة، بدلاً من “الشرق الأوسط”، التي كانت تدور الحوارات حوله قبل قدوم نجيب إلى السعودية؟ ما معنى أن تقديم كل المواطنين الذين ظهروا في الفيلم، من ضابط الجوازات بالمطار، وضابط آخر في سجن الترحيلات، ورفقاء الكفيل، والسائقين العابرين الذين رفضوا اصطحاب نجيب، وكل من رآه في الشارع بعد وصوله إلى المدينة، دون إظهار التعاطف الإنساني بالمستوى الطبيعي؟ وفي حين أنه قد يحدث في الحياة هكذا؛ لكن لا يمكن أن يكون الوضع عفوياً في العمل الفني، كما هي الزجاجة المميزة للمياه الغازية التي ظهرت عند نبع الماء الوحيد في الصحراء الكبيرة! يا للصدف! ثم يحصل هذا بالتزامن مع “إقحام” صوت جميل من الفلكلور الفلسطيني يردد: “بدوية طلت من المرج لوحدها.. البدر أخوها والهلال ابن عمها”، والذي يبدو خارج السياق تماماً؛ حيث لا علاقة له بالحدث، أو بالأشخاص، ولا حتى المكان. وحتى العقبان التي انقضت على جثة الراعي الهندي السابق؛ هل يتواجد هذا النوع منها في الجزيرة العربية؟ وكيف تنقضُّ على جثة، وهي المعروفة بأنها لا تأكل إلا صيدها الحي؟ وبالتالي هذا يدعو لاحتمالين: إما خطأ غير مقصود في اختيار الطير الجارح -رغم إتقانه فنياً-، وإما قصدية أخرى متعلقة برمي الكفيل للعجوز لعدم الحاجة إليه. ورغم أنها قاسية حتى في التصور، لكن من يتمعن في التفاصيل المؤلمة، لن يستبعد المزيد منها.

في نهاية الأمر، سيبدو “أيام حياة الماعز” فيلماً متقن الصنع من الناحية الجمالية المعنية بالتفاصيل الكثيرة والمؤثرة، وعرضاً إنسانياً لحالة تصنف بأنها فردية، حتى لو كانت هناك المئات منها، في مقابل الآلاف والملايين ممن لم يتعرضوا لما تعرض له نجيب. لكن الأمر ليس بريئاً على الإطلاق.


[1] عمر هشام الشهابي، تصدير الثروة واغتراب الإنسان: تاريخ الخلل الإنتاجي في دول الخليج العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، انظر ص355-386.