“الديستوبيا” .. الإنسانية على شفير الهاوية

0
9

في الوقت الذي نستشعر فيه مفارقات الحياة الصادمة؛ يرسم أدب “الديستوبيا” صراعا سردياً في مواجهة واقع تعيس لعالمٍ يسكنه الدمار ويسيطر عليه الظلام بعد موت الإنسانية. عالم يستميت فيه المحاربون بغية بناء قوى خارقة ومتاريس قاتلة، بينما تنغرس أقدام من تعوزهم إرادة المواجهة في وحل الخضوع والعجز والاستسلام، مرسخين الخراب وكأنه قدر حتمي، فكيف يعكس الأدب هذا الواقع؟

يخال أغلب النقاد أن أدب “الديستوبيا” تمكن من تأسيس نوع أدبي متكامل الأركان من رواية “1984” للروائي البريطاني جورج أورويل.

راج “أدب الديستوبيا” مع بزوغ الثورة الصناعية واستفحال الفوارق الاجتماعية، وبعد الحربين العالميتين وما رافقتهما من تداعيات كارثية على أكثر من مستوى، ظهر هذا اللون الأدبي كتيار تشاؤمي عدمي، استهله الأديب الروسي يفغيني زامياتين بروايته “نحن” التي صب فيها مرارته من نتاج الثورة الروسية، حيث صوّر مستقبل عالم فاقد لخصوصية البشر فيه، ما داموا يحيطهم الزجاج من كل جانب، خاضعين بيسر وطواعية للرقابة السياسية والمجتمعية، مفتقدين لما يصوغ هوياتهم كبشر، محرومين حتى من الكنية، إذ يتم التعامل معهم كمجرد أرقام ترصد في الإحصاءات الرسمية.

ويستدل بعض الدارسين لهذا النوع الأدبي إلى تأثير رواية “نحن” على رواية أورويل “1984”، وما سبقها أيضاً من دور فاعل لرواية الكاتب التشيكي فرانس كافكا “المحاكمة” في تأهيل انطلاقة هذا التيار الفكري والأدبي.

وبتفحص العناوين الأدبية، يتضح أن جنس الرواية يطغى على باقى الأجناس ويمتد من خلالها إلى الأفلام والدراما. جرى تسونامي الروايات العربية “الديستوبية” التي تتوقع مصيراً أكثر سوداوية. وتؤكد غالبية كتابات هذا اللون الأدبي على أهمية عدم تصنيفه تحت ما يسمى بأدب “نهاية العالم” الذي يتناول كارثة – قد تكون طبيعية أو بيولوجية أو نووية – في وقت ينصب فيه تركيز “الديستوبيا” ضمن كل هذه المآسي على موت الإنسانية.

تُظهر “الديستوبيا” الوجه الآخر للأخيلة الأدبية حين تتنبأ بمآل مدينة منهارة، بدءا من قبح الدمار المعماري مروراً بالتدهور التام للنظام وللقيم، وصولا إلى العدمية وفقدان إنسانية الإنسان. إذ لا يملك خالق السرد أمام الفجائع إلا إرسال صرخات استغاثة من حاضر بالغ القسوة، وإطلاق أجراس الإنذار من قادم كارثي أكثر إيلاما.

يرى النقاد أن اللوثة الأساسية في لون الرعب داخل النص الأدبي “الديستوبي” قد تتجسد إما في حروب نووية، أو انفجار ديموغرافي، أو استنزاف للطبيعة، أو تحوّل ظاهرة الفساد إلى مؤسسة عامة، أو تكميم الأفواه وخنق حرية التعبير، أو في انهيار سياسي.

ومن هذه الزاوية تتجلى “الديستوبيا” الكيفية التي يتحوّل بها الخيال الرشيق في الأدب إلى نذير شؤم ثقيل ومثير للرعب، وكيف يتأرجح بين الحلم البعيد للمدينة الفاضلة والواقع المترهل والملئ بالجروح. كما تميط القناع عن الكيفية التي تبحر من خلالها شخصيات البناء الحكائي في أعماق هواجس ومخاوف لا نهاية لها من مستقبل قاتم، ينبعث من واقع بائس تراجع عن الوعي بموقعه الحقيقي من التحولات التي يفترض أن تكون منقذة للأنا والآخر، وتسقط في جوف عالم على شفير الهاوية.

وبالتالي يبدو هذا النوع من الأدب الذي نجح في التكهن باستفحال معوقات شتى كالتلوث والفقر والانهيار المجتمعي وسيطرة الأنظمة الشمولية، حالة من العجز عن تبديل شروط الواقع، والاكتفاء باستلهام تنبؤات سوداوية عن نتائجه المستقبلية وتجاوز حتمية هذا المصير.

ولعل صعوبة إحداث تغيير في الواقع وإيجاد مخارج حتمية لمآزقه والفشل في استيعاب شروط المستقبل الآمن هو ما يبعث بمثل هذا الخيال الغارق في التشاؤم. مما يعزز ربط هذا اللون – تخيلاً وقراءة – بأوضاع عسيرة قد تكون سياسية أو اقتصادية أو صحية.

ومما يضخم هذا التوجه الفكري في الوقت الراهن – بحسب الكثير من النقاد – طغيان تكنولوجيا المراقبة والتقاط المعطيات والوعي المتزايد بالإمكانات التي تتيحها التكنولوجيا لانتهاك الخصوصية والتأثير في الأهواء والميول والمواقف في مجالات عدة أقربها الاقتصاد والسياسة، يقابلها إدراك مماثل بتنامي المخاطر البيئية والبيولوجية، إلى جانب اتساع مجال الانتشار السريع للمعلومة الصحيحة والزائفة، ومن جانب آخر الميل الذي لا يمكن اغفاله إلى التمجيد والثقة في المعطيات العلمية، وهي عناصر تشكل المدّ العلمي لإغناء المتخيل السردي للدستوبيا.

بين خيال موغل في التشاؤم يثق بالاحتمالات المقبولة على المستوى العلمي، وآخر يتجاوز كل ذلك ليحلق بعيداً خارج كل الضوابط، توجد مسافة متاحة بين الحقيقة الممكنة والعجائبي الخارق.

ينسج ”أدب الديستوبيا” البعض من سردياته مستندا على الخيال العلمي، الممزوج بكثير من الظلال المظلمة للتنبؤ بعالم يحكمه الشر ويسوده الدمار وتحتضر فيه معاني الإنسان والفضيلة. غير أن التماهي في مفارقة حدود الإمكان ينتقل بالسرد من منطق الخيال العلمي في آفاقه الرحبة ليقترب به من النفس العجائبي..

ويظل هذا التراوح عند التماس بين حدود العجائبي والإبحار في الخيال المطعم بخلفيات علمية محكاً لحدس مدى توازن السرد، مما يضع القارئ في دائرة القناعة باحتمالية تحقق تنبؤاته، ما دامت تنبني على حدٍ معقول من أحكام ذات مرجعية علمية.

ولعل المفارقة تظهر في الوقت الذي تنذر فيه “الديستوبيا” بمآسي مدينة مقبلة على الانهيار، فيما تبشر فيه “اليوتوبيا” – كلبنة تاريخية بديلة مبتغاة – بمدينة فاضلة آمنة ومستقرة يسودها والخير والبهجة والسلام، وتحتكم إلى مبادئ الأخلاق في مقدمتها مدينة أفلاطون التي كشف عن معالمها في محاوراته السياسية تحت مسمى “الجمهورية”.

ولم يقف الحلم بهذه المدينة عند الثقافة اليونانية بل غُرس في كتابات من ثقافات عدة، بما فيها الثقافة الإسلامية، واغتنت ملامحها عبر ذلك بزمن بعيد قبل أن يجهر السياسي والفيلسوف والمؤرخ والروائي توماس مور في كتابه “يوتوبيا” برؤيته عن مدينة تنشأ على نموذج اجتماعي وسياسي جديد ينظم حياة الأفراد وفقاً لمبادئ العدالة والحرية والمساواة، ويرسخ أعراف وقواعد تحتفي بالخير للجميع وتحفل بالطبيعة وتدعو إلى حمايتها، لتنجح ببناء شخصية مواطن ملتزم بأحكام قانون هو من ساهم في صياغته أساسا.

وفي الطرف الآخر النقيض بدت رواية “عالم جديد شجاع” للكاتب البريطاني ألدوس ليونارد هكسلي لتندرج بوضوح تحت “أدب الديستوبيا” وتتنبأ بعالم يتمادى فيه الباحثون في توظيف هندسة الجينات والاستنساخ بغية السيطرة على الأفراد، عبر التحكم في طبيعة الولادات وفق تصميم مراد له أن يسفر عن 5 فئات اجتماعية – النخبة، التنفيذيون، الموظفون، وفئتان يتولى أفرادهما القيام بالأعمال الشاقة- وهي فئات يتم توصيفها بالأبجدية اليونانية “ألفا، بيتا، غاما، دلتا وإبسلون”.

 وفي هذا المشهد السيريالي تمخض الصورة عن نظام شمولي يستخدم القمع ويعدم أبسط الحريات الطبيعية، ويحكم سيطرته على الجميع في سجن واسغ مفتوح، يسكنه عبيد بدون استثناء حتى أولئك المصنفين منهم في عداد النخبة ما داموا مبرمجين جميعاً ليكونوا ما هم عليه، لا يملكون البتة اختيار ما يودون فعله بحياتهم.

وتوالت عن هذه الصورة للمدينة الفاسدة نماذج “للديستوبيا السياسية” تأخذ من ذات المستنقع، ما كشفت عنه الرواية التأسيسية الأخرى لهذا اللون الأدبي لجورج أورويل “1984” حين رسمت حياة سكان مدينة يعيشون تحت حكم استبدادي وضغوط من القهر والمحاسبة، محرومين من أبسط ما تمنحه الحياة من حرية، محاطين بكاميرات مراقبة وضعها النظام لترصد جميع تحركاتهم وأفكارهم.

كثيرة هي الروايات التي تندرج ضمن نفس اللون الأدبي الذي صنفه بعض النقاد بـ”الديستوبيا الثقافية” من قبيل رواية “فهرنهايت 451” للروائي الأمريكي راي برادبوري (2012 – 1920) والتي توقع فيها أن تشهد الولايات المتحدة والعالم عودة لحقبة من الإرهاب الفكري والثقافي المنطلق من أحكام سياسية مسبقة ومواقف شمولية. وتترجم الرواية الصادرة عام 1953 هذا الطرح من خلال تصويرها لمستقبل يُمنع فيه تداول الكتب بشكل كلي، ويتم إحراقها إن وجدت على درجة 451 فهرنهايت، ليتم الاستعاضة عنها كليا بالتلفزيون.

ويعتقد بعض الدارسين أن ازدياد عدد الروايات العربية الديستوبية في الآونة الأخيرة قد يعلم بأن هذا اللون الأدبي الذي سمي لاحقاً بأدب ما بعد الثورات، اقترب من أن يكون ظاهرة عربية بامتياز، يصبو إليها من عمق المعاناة البحث عن جواب لسؤال وجودي مؤرق “ماذا بعد؟”.

والإجماع ثابت لدى النقاد على أن جملة من أزمات وإحباطات الواقع العربي على أكثر من صعيد، وما صنعته من تحولات بنيوية في التركيبة السوسيو- ثقافية هي ما كان وراء تنامي حجم الكتابة في هذا النوع مدفوعة بخلفية تاريخية لا خلاف حول ما تتسم به من صعوبات شديدة التعقيد. وهي صعوبات لا تكتفي بما هو من قلب دائرة رقعة الوطن العربي وهواجسه آنا واستقبالا، بل تشمل أيضا في ظل عولمة المآسي والصفعات ما يطال باقي بلدان العالم وما تعصف به الرياح في كل الشطآن والمرافئ وما يتدافع نحوها وبينها من زوابع.

يؤكد النقاد أنه إذا كان القرن العشرون هو “العصر الذهبي لأدب الديستوبيا، فإن القرن الحادي والعشرين هو العصر الذهبي للديستوبيا الحقيقية المتجسدة على أرض الواقع، ديستوبيا الدول الفاسدة، ديستوبيا الحرب والدمار” والأوبئة المستعصية وما يترافق معها من تباطؤ أو نكوص اقتصادي. وهو وضع لم يعد بالدليل القطعي يستثني أحدا لأن المحنة باتت عالمية.

وتتزاحم الروايات العربية “الديستوبية” التي تلعن في العمق شروط واقع قائم وتتنبأ بمصير أكثر سوداوية يلف خلاله الفساد والخبث والأوبئة وجه المدينة العربية ويكبل سكانها في قلب مستقبل مقلق محفوف بالخوف من المرض والقمع والتنكيل والنزعات المادية المجنونة وغيرها.

 ويمكن في هذا الصدد، مثالا لا حصرا، استحضار رواية “حرب الكلب الثانية” للروائي الفلسطيني إبراهيم نصرالله، و”اللجنة” للروائي المصري صنع الله إبراهيم، ورواية “وليمة أعشاب البحر” للروائي السوري حيدر حيدر، ورواية “يوتوبيا” للروائي المصري الراحل أحمد خالد توفيق. غير أن ما يميز الرواية العربية “الدستوبية”، والتي لا يزيد عمرها عن عقدين، هي أنها لا ترمي بنفسها كلية في أحضان نظيرتها الغربية، ولا تحلق كثيرا في مراتع الخيال العلمي المجازف، كما أنها لا تطل على قارئها بقصد الترفيه، إنما تتأسس بحسب قراءات تحليلية على نوع من الالتزام بالواقع السياسي والاجتماعي وتحذر من استمراره وترديه.  

وتتوارد عند مقاربة الأعمال المصنفة ضمن هذا النوع الأدبي أسئلة متعددة، لعل أقربها البحث في مدى ما يملكه تنبؤ النص السردي بمستقبل فاجع من قوّة على منح الإنذار الكافي ليتم استدراك الأمور قبل أن تؤول إلى الأسوأ، وحيز واقعية ومصداقية هذه التنبؤات، وكذا القيمة الأدبية النوعية التي تملكها هذه الأعمال أو تبشر بها ضمنيا، خاصة على مستوى المشهد العربي.

أسئلة كهذه وغيرها كثير تفرض بالدرجة الأولى أبحاثا وقراءات محايثة للنصوص الروائية، وحري بها من هذه الزاوية أن تثير شهية النقاد وأيضا الباحثين على مستوى أكاديمي.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا