بقلم : Samirah Jarrar
31 July 2024
ترجمة: غريب عوض
إن الرقابة في فرنسا، على المواقف المؤيدة للفلسطينيين شديدة بشكل خاص، مع الإستخدام المُتزايد من قِبَل اليمين المُتطرف لِتُهم مُعاداة السامية. ولكن خلف الموجة الراهِنة من القمع نجدُ مجموعة من المواقف التي هي ليست بجديدة ولا هي تقتصر على جناح اليمين.
في الحادي والعشرون من مارس/ربيع الأول 2024، كان إجتماعاً للمائدة المُستديرة، تحت عنوان “الحرب على غزة تُشاهد من الضفة الغربية” على وشك أن ينعقد في جامعة Aix-Marseille في فرنسا. ولكن قبل ساعات قليلة فقط من الموعد المُحدد لإنعقاد الإجتماع، تم إلغاء الترخيص الممنوح سابقاً لنقابات التعليم العالي والجماعات المُنظِمة لهُ.
حاول مُنظموا الإجتماع إعادة جدولة الحدث تحت المظلة المؤُسسية لوحدة الأبحاث بالجامعة، ببرنامج جديد مصقول وغير مُسيس. ولكن على الرغم من ما وصفهُ أحد المُنظِمين بـ ’المُمارسة المؤُلمة للرقابة الذاتية‘، قامت الجامعة بإلغاء الحدث مرة أُخرى في اللحظة الأخيرة.
في ظل الظروف العادية، من شأن إلغاء حدث أكاديمي مرتين أن يجذب قدراً كبيراً من الإهتمام. ولكن وسط موجة من الكبت والرقابة حول موضوع فلسطين الذي غمر الفضاء العام الفرنسي بعد هجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، مَرَ دون أن يلاحظه أحد تقريباً. ربما لم أكن لأعلم بإلغاء الإجتماع لو لم تتم دعوتي لإلقاء كلمة.
موجة القمع
وبعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول مُباشرةً، منعت السُلطات الفرنسية المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، وقمعت بِعُنف المتظاهرين السلميين وألقت القبض على الكثيرين منهم. وفي الرابع عشر من أكتوبر، أعتقلت الشرطة بطريقة وحشية الناشطة النسوية ,المثقفة الفلسطينية البالغة من العمر 72 عاماً مريم أبو داقا، التي تمت دعوتها إلى فرنسا لتلقي خطاباً في سِلسِلة من المؤتمرات، وتم ترحيلها إلى مصر بعد أن قضت شهراً في المُعتقل. كان اعتقال الناشطة مريم أبو داقا مُرتبطاً بإنتسابها لمنظمة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي صنفها الإتحاد الأوروبي مُنظمة إرهابية.
وبينما إجتاح القمع الشوارع، أستولت على وسائل الإعلام شكل دقيق من السيطرة والإنضباط. فأسرت جرايد الأخبار وبرامج التليفزيون ومحطات الإذاعة إلى الإصطفاف مع الرواية الإسرائيلية، تُدين هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول ولكن في الوقت نفسهِ تتجاهل 76 عاماً على الأقل من التهجير والأستعمار الصهيوني في فلسطين. لم يُترك مجالاً للباحثين والخُبراء لطرح تحليلاتهم النقدية الدقيقة، في حين تم ببساطة فرض الرقابة على البعض الآخر. ومنعت شروط الخِطاب الكثيرين من المُساهمة في النقاش العام خوفاً من التعرض للإعتداء أو التمثيل الخاطئ.
ولم تسلم الأوساط الأكاديمية من طوفان القمع. فقد تم تحذير أساتذة الجامعات وإيقافهم عن العمل وفتح قضايا تأديبية ضدهم بسبب التعبير عن دعمهم للنضال التحرري الفلسطيني، حتى لو كان ذلك من خلال حساباتهم الشخصية على وسائل التواصل الإجتماعي. ففي 9 يوليو/تموز 2024، على سبيل المِثال، تم إعتقال فراسوا بورغات François Burgat، المُدير الفخري للأبحاث في المركز الوطني للبحث العلمي وخبير الإسلام السياسي، بِتُهمة “الدفاع عن الإرهاب”.
وفي الوقت نفسهِ، أدت حملة القمع الإداري الأوسع نِطاقاً إلى إلغاء فعاليات أكلديمية حول فلسطين، مُبَرِرِةً ذلك بِأسباب أمنية أو لأن الأحداث أُعتُبِرت سياسية بشكل صريح. كما تم أيضاً إسكات العُلماء خارج الجامعة. وكانت الحالة الأكثر شهرة هي الفيلسوفة الأمريكية جوديث باتلر Judith Butler، التي ألغى عُمدة باريس مُحاضرتها عن مُعاداة السامية وفلسطين، والتي كان من المُقرر أن تُلقى في السادس من ديسمبر/كانون الأول.
ولكن مع إرتفاع عدد الضحايا الفلسطينيين في غزة، نَمَتْ حركة التضامن داخل الجامعات. وكما حدث في الولايات المتحدة وأوروبا، أصبحت الجامعات في فرنسا المواقع الرئيسة ليس فقط للتحشيد من أجل فلسطين، بل وأيضاً للإحتجاجات الداعمة للحرية الأكاديمية.
وبدأت الحكومة تتدخل على نحوٍ مُتزايد في شؤون الجامعة. في الثالث عشر من مارس/ آذار 2024، قدم رئيس الوزراء غابرائيل أتال Gabriel Attal نفسه في معهد العلوم السياسية في باريس، وحث الجامعة على اتخاذ إجراءات تأديبية ضد الطلاب الذين نضموا فعالية تضامنية مع فلسطين في الحرم الجامعي. وقد جاء هذا التدخل في أعقاب إتهامات بمُعاداة السامية وجهها أعضاء إتحاد الطلاب اليهود في فرنسا. وخوفاً من وصمها بمُعاداة السامية، عززت العديد من الجامعات الرقابة على كل الأمور المُتعلِقة بفلسطين.
وأصبحت جامعة العلوم السياسية مركزاً للمخيمات الطلابية في فرنسا، والتي أمتدت بعد ذلك إلى جامعات أُخرى، بما في ذلك جامعة السوربون، والمدرسة العُليا للتعليم، ومدرسة الدراسات العُليا للعلوم الإجتماعية. وواجهت الإحتلالات، التي طالبت سلمياً بِإنهاء التعاون الأكاديمي مع المؤسسات العسكرية والإستعمارية، قمعاً من جانب إدارة الجامعات. وفي مناسبات مُتعددة إستدعت الجامعات الشرطة لطرد طُلابها، وأحياناً أدى إلى إلقاء القبض عليهم. ولم يستثني القمع البوليسي المُظاهرات في المدارس الثانوية أيضاً، حيث تم إعتقال العديد من الطلاب. وأصبح تطبيع التدخُل المُمنهج للشرطة داخل المدارس والجامعات مصدر قلق كبير.
إن الهجمات على الحركات الطلابية المؤيدة للفلسطينيين هي تعبيراً عن الأستبداد المُتصاعد للسُلُطات الفرنسية، والذي يتمشى مع المواقف المؤيدة لإسرائيل. وخلال الإنتخابات التشريعية الفرنسية الأخيرة، ,التي أتسمت بإرتفاع قياسي في عدد الأصوات اليمينية المُتطرِفة، تم إستغلال إتهامات مُعاداة السامية في كثير من الأحيان لتشويه سُمعة الشخصيات والحركات المُناهِضة للعُنصُرية التي أدانت العدوان الإسرائيلي على قِطاع غزة. وكان الحزب السياسي اليساري المُتطرف “فرنسا الأبية” وزعيمهُ جان لوك ميلينشون Jean-Luc Melenchon الأكثر تضرراً من هذهِ الهجمات.
قصة فرنسية قديمة
إن قمع حركة التضامن مع الفلسطينيين في فرنسا ليس بالأمر الجديد. لقد واجهت الحركات المؤيدة لفلسطين، من ضمنها حركة المُقاطعة وسحب الأستثمارات وفرض العقوبات، مُحاولات مُتكررة لتجريمها على مر السنين. إن الموقف العام للمؤسسات الفرنسية تجاه فلسطين له أسباب مُعقدة عميقة تتعلق بالجغرافيا السياسية الفرنسية، والماضي الإستعماري لفرنسا، وحاضِرُها الإستبدادي العُنصُري.
عِندَ إنشاء دولة إسرائيل، كانت فرنسا الداعم الرئيسي لتسليحها العسكري والنووي. على سبيل المِثال، تم بِناء مفاعل ديمونا النووي Dimona nuclear reactor في صحراء النقب بِمُساعدة فرنسية خارج نظام التفتيش التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية. ومُنذُ ستينيات القرن العشرين فصاعداً، غيّرت فرنسا موقفها، وأعترفت بالحقوق الوطنية للفلسطينيين. وكان العدف هو ضمان استقلال فرنسا عن الولايات المتحدة وتعزيز مكانتها في العالم العربي في أعقاب الحركات المُناهِضة للأستعمار. وفي الوقت نفسه، حافظت فرنسا على علاقات دبلوماسية وأقتصادية مع إسرائيل ولم تشكك بجدية في نظامها الإستعماري.
وعلى مدى العشرين عاماً الماضية، أدى ميل الحكومات الفرنسية المُتعاقبة إلى اليمين وإصطفافها مع العقيدة المحافظة الجديدة الأمريكية إلى تقوية الروابط السياسية والإقتصادية والأيديولوجية مع إسرائيل. ولعبت جماعات المصالح الصهيونية القوية دوراً في تشكيل مواقف الحكومة تجاه إسرائيل وفلسطين، بإستخدام إتهامات مُعاداة السامية لمُمارسة الضغوط. في عام 2019، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون Emmanuel Macron أمام الحاضرين في تجمع العشاء السنوي للمجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية الفرنسية أن فرنسا ستعتمد تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست لِمُعاداة السامية، مُعلِناً أن “مُعاداة الصهيونية antizionism هي شكل حديث من أشكال مُعاداة السامية antisemitism”.ويهدف هذا الخلط بين مُعاداة الصهيونية ومُعاداة السامية إلى إسكات الإنتقادات الموجهة لإسرائيل مع إستغلال الشعور التاريخي بالذنب تجاه تاريخ فرنسا الطويل وغير المحلول في مُعاداة السامية.
إن هذا الرفض لإنتقاد المشروع الإستيطاني الإستعماري الإسرائيلي، على الرغم من كل الأدلة على عُنف هذا المشروع وظُلمه، لهُ تاريخ فكريٌ أيضاً. فبالرغم من أن العديد من المثقفين الفرنسيين اليساريين مُنذُ الخمسينيات فصاعِداً كانوا صريحين في الدفاع عن قضايا اجتماعية وسياسية أُخرى، بل وحتى مُناهِضة للأستعمار، فإن أغلبهم كانوا صامتين أو حتى مُتعاطفين مع الصهيونية، بإستثناءات قليلة مثل جيل دولوز Gilles Deleuze و فيليكس جوتاري Felix Guattari و جان جينيه Jean Genet. وفي إستذكارهِ للوقت الذي دعاهُ فيه جان بول سارتر إلى باريس، صُدِمَ الباحث الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد بمدى البرودة التي عُمِلَ بِها من قِبَل العديد من المثقفين الفرنسيين، بما في ذلك ميشيل فوكو Michel Foucault. فقد كان إدوارد سعيد، الذي كان صريحاً للغاية في حديثهِ عن فلسطين، مُهمشاً في فرنسا؛ وحتى الآن لاتزال أعماله غير مُترجمة بالكامل إلى اللغة الفرنسية.
وبالمُقارنةً بدول أُخرى، فإن الأوساط الأكاديمية الفرنسية تقاوم عموماً الدراسات ما بعد الأستعمارية، وخاصةً الدراسات التي تتناول نهاية الأستعمار، والتي تُقدم نقداً أكثر شمولية وتجذر للهيمنة الغربية. ولكن على الرغم من هامشيتها، فقد أستهدفت الدراسات التي تتناول نهاية الأستعمار في فرنسا من قِبَل المُثقفين المُحافظين ووسائل الإعلام المُحافِظة، الذين يتهمونها (الدراسات) بأنها مُعادية للعِلم وتروج لسياسات الهوية. وهذا الإتحاه، الذي يُعزى غالباً إلى العداء للهيمنة الأكاديمية الأمريكية، يخفي قضية أعمق: الموقف الإشكالي لفرنسا تجاه ماضيها الإستعماري غير المحلول، وحاضرها الإستعماري الجديد.
ولنتأمل هذا الجدل الدائر حول تاريخ الحرب الجزائرية، وخاصةً المُحاولات التصحيحية لإعادة تأهيل الإستعمار الفرنسي. ففي عام 2005، أثار “قانون الذاكرة” الفرنسي (2005-158) جدلاً واسع النِطاق، وخاصةً بسبب المادة الرابعة التي تُلزم مُدرسي المدارس الثانوية بتأكيد “الدور الإيجابي” الذي لعبتهُ فرنسا في مستعمراتها السابقة. ورغم تعديل المادة الرابعة في وقت لاحق، فإن القانون لا يزال يعترف بـ “إمتنان” الأُمة للنساء والرجال الذين شاركوا في العمل الذي أنجزتهُ فرنسا في المُقاطعات الفرنسية السابقة في الجزائر والمغرب وتونس والهند الصينية، فضلاً عن الأراضي التي كانت خاضِعة للسيادة الفرنسية في السابق.
وعندما يتعلق الأمر بفلسطين،يُصبح تحليل المشكلة من منظور استعماري أمراً فاضحاً. وهناك حكاية شخصية حدثت معي: بِصِفتي طالب دكتواره إيطالي فلسطيني يعمل على دراسة فلسطين، طُلِبَ مني استبدال كلمة “الأستعمار”، التي أُعتُبِرت (وأنا أستشّهدُ بها) “جزئية للغاية” ويجب “تجنِبُها” بكلمة “صِراع”. وهذا التحكم اللغوي يُشكّلٌ جُزءاً من نظام أكثر عمومية للحقيقة، لا ينتقد إسرائيل ويُصوّر الوضع التاريخي بإعتبارهِ صراعاً بين جانبين مُتساويين. وبعيداً عن الموضوعية، فإن هذا الخِطاب يحجبُ مصالح سياسية مُحددة.
وبالرغم من هذا العُنف المَعرِفي، فإن جيلاً أصغر سِناً من الباحثين، ومن بينهم فلسطينيون ناطقون بالفرنسية، يُغيّرون النموذج بِبطء، ويضعون الإطار الأستعماري الأستيطاني في مركز تحليلهم لفلسطين.
إن استمرارية المركزية الأوروبية والمُحرمات المفروضة على إنتقاد الأستعمار الإسرائيلي داخل الأوساط الأكاديمية تنبع من نظرة عالمية مُهيّمنة تتسم بالعُنصُرية الدائمة. وكما زعم الخبير الإقتصادي والفيلسوف الفرنسي فريدريك لوردون Frédéric Lordon، فإن بعض قِطاعات المجتمع الأوروبي، وخاصةً البُرجوازية، تقفُ غريزياً إلى جانب إسرائيل، ليس فقط بسبب التقارب الإجتماعي (أنماط الحياة الليبرالية الجديدة، وما إلى ذلك)، ولكن أيضاً وبشكل خاص التعاطُف المُشتَرَك مع الهيمنة والتفوق العُنصُري.
إن التسلسل الهرمي العُنصُري للحياة يتجلى بوضوح في المعايير المُزدوجة التي تنتهِجُها المؤسسات الفرنسية في التعامل مع الصِراعات الدولية والأزمات الإنسانية. وكان سلوك المركز الوطني الفرنسي للبحث العِلمي CNRS رمزياً، حيثُ جمْد كلُ التعاون العلمي مع روسيا رداً على الهجوم الروسي على أوكرانيا، لكنهُ لم يصدر أي بيان بِشأن العدوان الإسرائيلي على غزة.
هذا الموقف العُنصري يتخلل السياسات الفرنسية تجاه المجتمعات العرقية السوداء والسمراء في أراضيها. تاريخياً، طبقت فرنسا نموذجاً إستيعابياً تجاه المجموعات العرقية والدينية المٌختلِفة الخاضِعة لِسُلطتها، وبذلت جهوداً سياسية لتأديب هؤلاء الرَعايا وفقاً للقيم “العالمية” للجمهورية الفرنسية ومبدأ العَلمانية. وكثيراً ما كان هذا يعني قمع التعبير عن الخصوصيات الدينية والثقافية للأقليات بِعُنف. ولقد تَعَرَضَ الرعايا ذو الأعراق المُختبفة للتمييز المكاني والمِهني والإجتماعي على مر السنين؛ ولم تتحقق المُساواة الفعلية في الحقوق والفُرص قط.
تَصاعُد القمع، وتنامي التعبئة
لقد أصبح الخِطاب والسياسات المُعادية للإسلام أكثر ضراوة في فرنسا بعد الهجمات الإرهابية الإسلامية في عام 2015، وبعد ذلك تم دمج سُلطات مُكافحة الإرهاب التي تنتمي إلى قانون الطوارئ في القانون العام، مما أدى إلى فرض قيود على الحُريات المدنية الفردية والجماعية. في السنوات التي تلت ذلك، أقر البرلمان الفرنسي سِلسِلة من القوانين التي تستهدف المجتمعات المُسلِمة، بما في ذلك مشروع قانون “الإنفصالية” الذي يُتيح قمع الجماعات المُسلِمة والمُعادية للعُنصرية.
لم تَسّلَم الأوساط الأكاديمية من صعود ظاهرة كراهية الإسلام، حيثُ وُصِفَ العديد من العُلماء والمُثقفين بإزدراء الإسلام بشكلٌ مُهين “الرهاب الإسلامي” (اليساريين الإسلاميين). ولم يُروّج لهذا المُصطلح اليمين المُحافظ فحسب، بل وأيضاً مراكز الأبحاث والشخصيات المُرتبِطة بالجناح الأيمن من “اليساريين المُتعارضين”، الأمر الذي جعل المعركة ضد “الأسلاموية” (بما في ذلك رفض مفهوم “مُعادة الإسلام”) أحد خطوط الشقاق الرئيسية بين اليسار المقبول (أي، اليسار الجمهوري والعلماني) وبقية الطيف السياسي.
في عام 2021، أعلن وزير التعليم العالي فريدريك فيدال Frederique Vidal عن عزمهِ على فتح تحقيقاً حول “اليسار الإسلامي أو الاسلاميون التقدميون” في الجامعات، وأن يطلب من المركز الوطني للبحث العلمي تقديم تقريراً حول جميع البحوث التي أُجريت في فرنسا، من أجل التمييز بين ما يندرج تحت البحث الأكاديمي وما هو “نشاط”. كان من المُفترض أن يستهدف التحقيق، الذي لم يتمُ إجراؤهُ في النهاية بعد رفض المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي المُشاركة، دراسات ما بعد الأستعمار وما بعد الأستعمار والتقاطعية، والتي تُركز على الهيمنة المُتداخلة والتمييز على أساس العِرق والجنس والطبقة.
في حين رفض المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي تصنيف الإسلاموية التقدمية بإعتبارها “غير علمية”، فإن الموجة الجديدة من المكارثية التي يواجهها العُلماء والطلاب المؤيدون للفلسطينيين تظل هذهِ المُمارسات تُشكّل مخاطر حقيقية على حياتهم المهنية وقد تكون لها عواقب قانونية ومهنية خطيرة. إن العُنصرية البُنيوية والأستبداد المُتنامي للمؤسسات الفرنسية يُفسِران الرد العنيف على حركات التضامن مع الفلسطينيين وكذلك اللامُبالاة تجاه المَجازر التي يواجهها الشعب الفلسطيني في غزة.
ولكن نزع الصِفة الإنسانية عن حياة البشر من خلال التمييز العُنصُري والآليات المُستخدمة لِتأديب ومُعاقبة المُعارضين لم تتمكن من وقف الثورة ضد الظُلم والعُنف. فقد وفّرت وسائل التواصل الإجتماعي مساحة للمعلومات والتبادل المُستقل، وربطت بين حركات التضامن في مُختلف أنحاء العالم، في حين تستمر المُظاهرات الحاشِدة دون رَدع.
بالنسبة للعديد من أفراد الشعب الفرنسي، لاترمز فلسطين إلى نِضال الشعب الفلسطيني من أجل التحرير فحسب، بل ترمزُ أيضاً إلى النِضال العالمي ضُد العُنصُرية والظُلم والإمبريالية والفاشية. وليس من قَبِيل المُصادفة أن تجد الحركة الفلسطينية اليوم أصداء وتضامناً مُتبادلاً في نِضال شعب الكاناك من أجل الأستقلال، السكان الأصليون لأرخبيل الكاناك (كاليدونيا الجديدة) في جنوب غرب المحيط الهادئ، الذي استعمرتهُ فرنسا في عام 1853م.
مُنذُ العدوان الإسرائيلي الراهن على غزة، نشأت في فرنسا مجموعات محلية ووطنية جديدة مؤيدة للفلسطينيين، في حين أكتسبت مجموعات قائمة بالفعل، مثل مجموعات المُقاطعة وسحب الأستثمارات وفرض العقوبات، أعضاء جُدُدْ. وقد جمعت حركة التضامن بين قوى إجتماعية وسياسية مُختلِفة، من اليسار الراديكالي إلى الحركات إلى الحركات المُناهِضة للأستعمار والعُنصُرية، بما في ذلك اليهود المناهضون للصهيونية. كما أن توليف الحركة يتفاوت أيضاً عبر الخطوط الطبقية، مع مُشاركة قوية من السُكان المُهمشين على أساس عِرقي، والنِقابات العُمالية، والجماعات المِهنية، مثل المُراسلين والمُعلمين والمُحامين والأطِباء والعاملين في المجال الثقافي.
وفي الجامعة تَرَكّزت بشكل مُتزايد تحركات الطلبة والعاملين في التعليم العالي، مُطالِبين جامِعاتهم بالمُطالبة بوقف الإبادة الجماعية في فلسطين، وإقاف الشراكات مع المؤسسات الإستعمارية والعسكرية، والدخول في شَرَاكات مع الجامعات الفلسطينية، وأحترام الحِريات الأكاديمية. لقد أنشأوا مساحات إفتراضية جديدة، بما في ذلك المُدونات blogs وقوائم البريد الإلكتروني والمَنَصات لِتبادل المعلومات وتوفير البحوث والتحليلات المُستقِلة حول فلسطين. ومن خلال حركات المُخيمات، تمكن الطلاب من تحرير مساحات مادية للتفكير النقدي والتبادل المُتاحة ليس فقط لأعضاء الجامعة ولكن للجمهور الأوسع أيضاً.
إن الجهود المُشتركة التي تبذلُها مُختلف القوى المجتمعية، فضلاً عن الوحشية الواضحة للنظام الإسرائيلي، بدأت تؤتي ثِمارها ببطء في فرنسا. فالحركة الشعبية تُمارس ضغوطاً سياسية من القاعدة إلى القمة، وتُحوّل الخِطاب بِبطء نحو مواقف أكثر جُرأة تُدين الأحتلال والأستعمار الإسرائيلي.