دكتور جيڤاكو وما لم نعرفه من أسرار

0
35

تدور أحداث رواية “لارا بريسكوت” في مناخ رواية أصدرها الكاتب الروسي بوريس باسترناك في فترة حكم ستالين، وأطلق عليها عنوان “دكتور جيڤاكو”، وتقع الرواية في في سبعمائة وخمسين صفحة وكانت سبب شهرة كاتبها، وأصبحت من أكثر الروايات العالمية مبيعاً وأثارة للجدل، كما أن هوليود اشترت حقوق تحويلها إلى فيلم سينمائي. كان ستالين يحبّ كتابة باسترناك ويستمتع بها، لذلك أُستبعد من قائمة من طالتهم العقوبات، حيث طلب ستالين من اتباعه “أن يتركوا المجذوب، الساكن بين السحاب وشأنه”.

حين صدرت تلك الرواية في العام 1956 تبدأ الأحداث بمنعها من التداول لخشية النظام قوتها الهدّامة، فيقرر حظرها “اعتبروا رواية دكتور جيڤاكو سلاحاً أشهره أعداء الدولة، واعتبروا الجائزة مكافأة من الغرب” والمقصود هنا جائزة نوبل التي حصل عليها الكاتب عام 1958، أي قبل وفاته بسنتين.

رواية دكتور جيڤاكو كُتبت بتدفق بكر من داخل الكاتب ومن إحساس من يعثر على حب جديد حسب تعبير لارا بريسكوت: “الوسواس، الوله، تفكيره العاجز عن الانصراف إلى أي شيء آخر، والشخصيات تتسلل إلى أحلامه، وقلبه الذي يطير فرحاً مع كل اكتشاف، وكل جملة، وكل مشهد. مرّت أوقات كثيرة كان بوريس يحسّ فيها أن ذلك هو الشيء الوحيد الذي يبقيه حيّاً”.

هنا يبدأ دور المخابرات الغربية والأميركية على وجه الخصوص في الاستفادة من هذا الوضع فترة الحرب الباردة ضد الإتحاد السوفيتي لتقوم بالتخطيط  لإصدارها في الخارج “فلنأمل أن يجعل سلاح الدمار الشامل الأدبي ذلك الوحش يصرخ ألماً”، وكان لهم ما أرادوا  من خلال تهريب الرواية أولاً لألمانيا الغربية ومن ثم إيطاليا وبعد ذلك العمل على إصدارها وتهريبها للداخل السوفييتي من خلال الاستفادة من معرض في بروكسل “إكسبو 58″، وهو المعرض الدولي الأول بعد الحرب العالمية الثانية لتوزع رواية دكتور جيڤاكو على الزوار الروس وبالتالي وصلت للاتحاد السوفياتي مع ما سوف يؤدي إليه من استياء عالمي جراء حظرها هناك، حيث أن كان من المقدر أن يقصد هذا المعرض أربعون مليون سائح من جميع أنحاء العالم وبالخصوص أن الجناح الأضخم المشارك هو الجناح السوفياتي .

لإنجاج عملية توزيع الرواية المترجمة للغة الروسية استخدمت المخابرات الأمريكية جناح مبنى الفاتيكان لتوزيع الكتاب على الزوار الروس من خلال مجندة من المهاجرين الروس أرسلت إلى هناك، فحصلت راقصة البالية من فرقة مسرح البولشوي ييكاتيرينا أول نسخة منها أعقب ذلك عازف أوكورديون في فرقة الجيش الأحمر، أخذ الكتاب وأخفاه في حقيبة أوكورديونه الفارغة. مهرج في سيرك موسكو الحكومي وضع الكتاب في علبة المكياج .. الخ وبذلك تم تهريب ثلاثمائة وخمسين نسخة كما هو مخطط له.

بعد هذا النجاح استغلت وكالة المخابرات الامريكية مهرجان الشباب العالمي المنعقد في فيينا فضاعفت جهودها، وقررت أن تطبع وتوزع مزيداً من نسخ الرواية في حدود ألفي نسخة إضافة لروايات (الرب الذي أخفق) و (مزرعة الحيوان) و (1984) لجورج أورويل.

الجزء الأكثر إثارة في هذه الرواية الجميلة هو المتصل بحياة كاتب رواية دكتور جيڤاكو بوريس باسترناك وعلاقته بعشيقته و”ربة إلهامه” كما يسميها  أولغا فسيفولودوفنا، جمالها الأخاذ ورقة مشاعرها ساهم في رسم الصورة التي أرادها في بطلة روايته، فقد ألهمته شخصية  “لارا”، المرأة التي وقع العالم في حبها مثلما وقع بوريس في حبها”، وهي العشيقة التي لها ولد وبنت، ميتيا وإيرا من زوج قد توفي،  قدّمت له الكثير ودافعت عنه بكلّ قوة وشراسة ودخلت السجن وتحملته بشجاعة دفاعاً عنه ككاتب يحق له إبداء الرأي فيما يحصل لبلده، مع العلم  بأن باسترناك متزوج من زينايدا وله منها ولد مما أوقعه في ورطة مع عائلته، “ما عاد يحسّ بالذنب لأنه يكذب على زوجته، وما عاد يحسّ حرجاً إزاء كلام الناس وإزاء حقيقة أن زينايدا تعرف بالأمر لكنها لا تتكلم فيه “ومن جانب آخر”  ما كان بوريس قادراً، قبل ثلاث سنين فقط، على تخيل عالم لا تكون أولغا في مركزه”.

الرواية تحكي أيضاً عن تعرض المخالفين للنظام للغبن والتسقيط، والمثال البارز في هذا السياق بوريس باسترناك لدرجةٍ فصله من اتحاد الكتاب السوفييت، “ثم جرى التصويت فخرجت النتيجة بالإجماع. تقرّرت عقوبة نافذة المفعول فورّاً: يطرد بوريس ليونيدوفيتش باسترناك من اتحاد الكتاب”. وعلى الرغم من ذلك نال الكاتب دعماً وتضامناً، فأتته رسائل من البير كامو، جون شتاينيك، وحتى من نهرو، رئيس حكومة الهند”، كما أتته رسائل من طلبة في باريس، ومن رسام في موسكو، ومن جندي في كوبا، ومن ربة منزل في تورنتو. كانت هيئته تشرق كلّها عندما يفتح أي رسالة من تلك الرسائل”.

كمًا تستعرض الرواية المضايقات آلتي لاقاها بوريس باسترناك هو وأصدقاؤه بعد كتابته لهذه الرواية ليقول وهو يخاطب عشيقته “أنتِ لم تمري بما مررت به. أنت لم ترينهم يأخذون أصدقاءك واحدا تلو الآخر. أنت لا تعرفين كيف يكون شعور الإنسان عندما يظلّ حياً بعد أن يُقتل أصدقاؤه!”.

أحداث كثيرة تدور في هذه الرواية عن عمل قسم الجاسوسية والجواسيس ولعبة الكرّ والفرّ وأخلاقيات العمل والشذود الجنسي والحب وتسخير النساء الجميلات لاصطياد أسرار رجال من ذوي نفوذ، “امرأة تستخدم مواهبها للحصول على معلومت” وأمور كثيرة تجعل القارئ يغرق في الرواية، فقسم روسيا السوفياتية لدى وكالة المخابرات الامريكية يضم كثيراً من الروس المنشقين نساءاً ورجالاً، ولكن تظل إيرينا هي من يقع التركيز عليها في هذه الرواية: “كان علينا أن نقرّ بهذا. لم تكن إيرينا فتاة ممن يفزن في مسابقات الجمال، لكنها جميلة … ذلك النوع من الجمال الذي يكاد يكون خفياً”.

من ضمن ما يرد فشل المخابرات الأمريكية للإطاحة بالنظام الشيوعي في هنغاريا، بعد الحملات الدعائية التي قامت بها الوكالة لتشجيع المحتجين ونزولهم إلى شوارع بودابست للتعبير عن معارضتهم للاحتلال السوفيتي كما سمته الكاتبه، في أطار تناول الرواية لما كان يحدث بين القوتين العظيمتين، الإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الامريكية، أبان الحرب الباردة والاستفادة من الثغرات الموجودة من كالقيود المفروضة على حرية الرأي والتعبير وغيرها من الحريات، وكيفية استفادة الدول الغربية من كل ذلك لإذكاء غضب الشعوب على حكوماتها وبالتالي إشعال الثورات الملونّة لإسقاط الأنظمة غير الموالية للغرب .

رواية جميلة وممتعة، كُتبت بإسلوب علمي راقٍ، ففي الوقت الذي عرّت فيه أساليب الأنظمة الشمولية في التعامل مع حقوق الإنسان، لم تصرف النظر عما تقوم به الدول الغربية من أساليب وقحة في استعمال ذلك وبكل الطرق غير المشروعة في دفع الشعوب لحافة الهاوية، ونجحت الكاتبة في إلقاء الضوء على فصل غير معروف عن كاتب رواية (دكتور جيفاكو) بوريس باسترناك بأسلوب أدبي قوي ومتماسك.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا