أيام محمود درويش في القاهرة
هناك صور فوتغرافية قديمة قادرة على إختزال روح حقبة تاريخية بأكملها في ثنياها. إحدى هذه الصور، لقطة نادرة تجمع الشاعران محمود درويش وعبدالرحمن الأبنودي تتوسطهم الصحفية صافي ناز كاظم وهم يتجولون في شارع الغورية بالقاهرة مطلع السبعينات.ضحكة صافي ناز فجائية من القلب، وتبدو كردة فعل على شئ قاله لها محمود درويش الذي تشي ابتسامته وحركة يده اليسرى بأنه كان يسخر من شئ ما، فيما يبدو الأبنودي بابتسامته الخفيفة متمالكا نفسه.
بعد عقود طويلة كشفت صافي ناز، سر تلك الضحكة: “قلتُ لمحمود درويش بمشاعر خجلى أغلفها بالجرأة الزائدة: كيف تبدو علينا الهزيمة يا محمود درويش؟ (تقصد هزيمة ٦٧). ردّ مسرعاً بأسلوب البديهة الفلسطينية المشهورة: هزيمة؟ الذي يراكم يحسب أننا نحتل ثلاثة أرباع العالم! فضحكت وضحك معي، ولاحظت أن ضحكات كلينا جزء من محاولاتنا أن نخفف الوطء.” لاحقاً نشرت صافي ناز مقالا في مجلة “المصوّر” عن مقابلتها مع درويش بعنوان “قال للناس حوله… كل شئ سوى الندم”. عنوان المقال مستمد من قصيدة “المغني”لمحمود درويش.
بعد سنين طويلة أيضا، أضاف الأبنودي بدوره بعض التفاصيل عن تلك الجولة: “مشينا من الغورية للحسين للقلعة …ورحنا نتحدث عن عن الشعر وفلسطين وراحت كاميرا المصور (محمود عارف) تتابعنا من انزلاقنا من شارع إلى شارع…أنظر قال درويش . وأشار الى كومة ضخمة من الجرائد والمجلات قائلا: “كل هذه المطبوعات عامرة بالشتائم والاتهامات الموجهة إليَّ بسبب مغادرتي بلادي إلى القاهرة، لو أطاع الشاعر جمهوره لما عاش شاعراً لعام واحد، لا يقتل المبدع سوى جمهوره، فاحذر جمهورك، ودع ضميرك ووعيك الخاص يقودانك الى ما تراه.”
لم يكن الشاب محمود درويش وحده من اتسمت شخصيته بهذه الخلطة السحرية من روح التحدي مع رحابة صدر ساخرة من وقع الهزائم على النفوس آنذاك، بل كانت سمات جيل كامل من المناضلين الشباب مطلع السبعينات. بهذه الروحية إنطلق درويش بهمة ونشاط في ممارسة دوره الجديد في القاهرة: باحثاً وصحفياً وشاعراً، موظفا إمكاناته للاستفادة القصوى من مناخ حرية التعبير والاحتضان الرسمي والشعبي له. بعد حوالي عشرة أيام من المؤتمر الصحفي لدرويش، نشر الكاتب والأديب أحمد عبدالمعطي حجازي مقالا في “روز اليوسف” بتاريخ ٢٢ فبراير ١٩٧١، إقترح فيه بعض “المهمات ” التي يمكن أن يقوم بها درويش من موقعه الجديد بالقاهرة: “أقترح عليك، في البداية، أن ينصب نشاطك في (صوت العرب) في مجال أساسي، هو البرنامج العبري الذي تستطيع أن تسهم في التخطيط له، وفي تحريره، وهذا تخصص، نحن في أشدّ الحاجة إليه…أقترح عليك، أيضاً أن تبدأ مشروعا لترجمة الأدب الإسرائيلي الحديث الى لغتنا العربية.” وشرح حجازي الغرض من تلك الترجمة بقوله “إن أعدائنا يعرفوننا عن طريق كاتب مثل نجيب محفوظ أضعاف ما يستطيعون أن يعرفونا عن طريق أجهزة أمنهم وجواسيسهم. إن الكاتب جاسوس خطير، يقدّم معلومات عن النفس التي تفكر وتعمل وتخطط وتتراجع وتتقدم وتحارب. ونحن في أشدّ الحاجة إلى جواسيس من هذا النوع…نحن نريد أن تترجم لنا شعراً… نريد أيضاً أن نقرأ آراء مفكريهم في مشكلة إسرائيل كما يعانون منها ويتصورون لها الحلول”.
بالامكان تلمس الهاجس الأمني الكامن وراء المهمة الأدبية التي اقترحها حجازي على درويش، وهو أمر يختلف جذرياً عن دعوات التطبيع الثقافي مع العدو التي راجت لدى االكثيرين في العقود اللاحقة. ختم حجازي مقاله بأمنية “ومن يدري، يامحمود، ألا يكون مقامك في القاهرة بداية لأن تشعل نشاطاً، وتثير روح العمل من أجل ما نطالبك بأن تقوم به وحدك؟!” . ربما كانت تلك الأمنية بالضبط هي ما سعت له الدولة المصرية آنذاك عبر ترتيبها ورعايتها لاستضافة درويش بالقاهرة، خاصة بعد أجواء هزيمة ١٩٦٧ والحاجة الى ما ينهض بالهمم ويرفع المعنويات للخروج من حالة الانكسار وشعور الخيبة الذي عم الجميع .
من صوت العرب الى الأهرام
على الرغم من قصر المدة الزمنية نسبياً لإقامة درويش بالقاهرة ( ١٩٧١-١٩٧٢ ) مقارنة مع المنافي الأخرى التي عاش بها، إلا أنها كانت مهمة للغاية في تطوّره الفكري والأدبي، خاصة فيما يتعلق باحتكاكه وتواصله مع الرموز الفكرية اللامعة لذلك العصر. يساعدنا كتاب الباحث سيد محمود “المتن المجهول – محمود درويش في مصر” على تمييز مرحلتين في نشاط درويش بالقاهرة. المرحلة الأولى عندما عمل كمستشار ثقافي في إذاعة “صوت العرب” بالتزامن مع كتاباته في مجلة “المصوّر” التي كان يرأس تحريرها رجاء النقاش، حيث نشر درويش مجموعة من القصائد، إحداها قصيدة قصيرة بعنوان “رباعيات” لم تنشر للأسف في أعماله الشعرية لأسباب نجهلها، و قام بأعادة نشرها لحسن الحظ ، الباحث د.عماد عبده الطروانة، في كتابه الرائع “حكاية محمود درويش في أرض الكلام”. يقول درويش في مطلعها: “والذي يقتل في ليل رفح/ يولد، الليلة، في فجر جنين/ وطني يمتد من جرحي إلى قوس قزح/ وطني قابلة للثائرين”.
المرحلة الثانية كانت عمله بجريدة “الأهرام “، وهي المرحلة الأهمّ في محطة القاهرة، حيث خصص له رئيس تحرير الأهرام آنذاك محمد حسنين هيكل مكتباً بالدور السادس وهو الطابق الذي كان يطلق عليه “طابق العظماء” (مكتب توفيق الحكيم لوحده، نجيب محفوظ، يوسف إدريس، بنت الشاطئ ومحمود درويش جميعهم في مكتب واحد) . لاحقا سيكتب الكاتب صبري حافظ عن تأثير ذلك علـي درويش بقوله “أظن أنّ هذه التجربة كان لها دور تثقيفي كبير في حياة درويش فقد علّمته طبيعة الحراك الثقافي العربي ووضعته في قلب خريطة ثقافية معقدة، استطاع قرائتها بمهارة والاستفادة من دروسها فيما بعد”.. راقب محمود العلاقات بين الأدباء، “وعرف أيضا طريقه بين ألغام ذلك الواقع. لم يكن يريد أن يكون سلبياً كمحفوظ، ولا متمرداً كيوسف إدريس، بل أراد أن يشقّ طريقا بين الطريقين. وإستفاد كثيرا من دروس تلك التجربة حين انتقل إلى بيروت عام ١٩٧٣ وكانت غابة متشابكة من القوى الفلسطينية المتصارعة. فاستخدم ذكاءه العملي إلى أقصى حد كي يحافظ على مسافة نسبية تفصله عن المؤسسة السياسية.”
يُقسم سيد محمود مقالات محمود درويش في جريدة “الأهرام” إلى ثلاثة مواضيع أساسية: أولاً؛ مقالات في التحليل السياسي، ثانياً؛ مقالات حول الشخصية الإسرائيلية، ثالثا تغطيات لمؤتمرات ومشاركات أدبية حول الشعر. ما يلفت النظر الآن من جملة مقالاته تلك، نص بعنوان “غزة كل يوم” نشره في الأهرام في ديسمبر ١٩٧١، وكتبه تفاعلا مع أنباء استشهاد قائد قوات التحرير الشعبية لتحرير فلسطين زياد الحسيني في أواخر نوفمبر 1971، يقول درويش: “لا بريد إلى غزة، لأنها محاصرة بالأمل والأعداء .. .ورغم ذلك، نقف اليوم، وكل يوم ، لكي نصلي لإسمها النادر بين الأسماء … ليس صحيحا قول الإسرائيليين إنهم عاشوا أشدّ الليالي سوادا في غزة ليلة أمس الأول.كل لياليهم وأيامهم هناك سوداء، لأن جسد المقاومة في غزة مازال ينبض حرائق مرادفة لحضور المحتل فينا…إن غزة تحرر نفسها وتاريخها كل ساعة …ليست غزة كفارة ذنوب، كما يقول البعض، ولكنها نموذج عمل، وإعلان إرادة… يأتي يوم لا تكون فيه غزّة اسما نادرا بين الأسماء … شكراً غزة …شكراً غزة.”
أن تكون في القاهرة في التوقيت الخطأ
إذا كانت القاهرة “موقعاً” جديدا لدرويش يستطيع عبرها أن يمارس نشاطه بحرية أفضل بما لايقاس من بقائه في حيفا، فإن توقيت قدومه بعد وفاة الزعيم جمال عبدالناصر، واستلام السادات لسدّة الحكم، سيعني أنه لا بد أن يكون مستعداً لمواجهة مفاجآت لم تكن في الحسبان. فبعد وصوله القاهرة بأشهر قليلة تمت إزاحة غالبية من كان لهم دور في قدومه للقاهرة من مناصبهم ضمن سياق ما عرف آنذاك “بثورة التصحيح” في مايو ١٩٧١، وحسب تعبير الباحث سيد محمود: “فهم درويش أنه جاء الى القاهرة في “الوقت الخطأ” ..وأدرك الشاعر بحساسيته المعهودة تغيّر الصورة تماماً.. تغيّرت خريطة مصر التي أمسك بها درويش وهو في موسكو، وتغيّرت إحداثياتها بالكامل، وذهب أغلب من التقى بهم إلى السجون وأولهم وزير الإعلام محمد فايق ورئيس “صوت العرب” محمد عروق وبقية مجموعة صوت العرب” … ” وبين يوم وليلة، وجد درويش نفسه في ” الظل”،لا يعرف ما الذي ينبغي أن يفعله؟ وما هي خطوته المقبلة؟” ضاعف من تعقيد الوضع تصاعد موجة التظاهرات الطلابية الداعية إلى شنّ حرب ضد إسرائيل (مناخ حرب الاستنزاف)، وبلغت الذروة في اعتصام ميدان التحرير الشهير في يناير ١٩٧٢. في تلك الأجواء المشتعلة فكرت مجموعات طلابية في دعوة محمود درويش ليقدّم أشعاره خلال فترات الاعتصام داخل الجامعات. تذكر الصحفية منى أنيس كيف أنها ذهبت بصحبة زميلها سمير غطاس (نائب برلماني)، وبتكليف من زملائها “لإقناع الشاعر بالمشاركة في أمسية شعرية لدعم الحركة الطلابية” . كان موعدهم مع درويش في فندق شبرد، “حيث قام سمير بسؤال درويش بعنف: “لماذا تركت المقاومة وجئت مصر ؟” ..إنزعج درويش بشدّة من صيغة السؤال وطريقة طرحه، وأشعل سيجارة مالبورو، وحمل أوراقه ومضى”.
بالتدريج وجد درويش نفسه في مأزق صعب بدءاً من عام ١٩٧٢، فمصر دخلت “عام الضباب” بحسب تعبير ساخر راج بين الناس آنذاك، وكان الوضع بالقاهرة مشحونا بالتوترات السياسية التي راقبها درويش عن كثب بدون أن يكون طرفاً فيها بوصفه ضيفاً على بلد أحسن ضيافته في منفاه الأول. لذلك عندما قابله أنيس صايغ وعرض عليه العمل في مجلة “شؤون فلسطينية” الصادرة في بيروت، وبراتب شهري متواضع، قبل العرض قائلاً: “أنا جاهز للمجئ الى بيروت فورا” . وهكذا مثلما كانت ترتيبات خروجه من إسرائيل ودخوله القاهرة ضمن اتفاق مسبق مع السلطات المصرية وبتكتم تام، فقد خرج من مصر بهدوء وبلا ضجة متجها نحو منفاه الثاني بيروت .
هل أخطأ في توقيت الانتقال هذه المرة؟