جعلوها أوهن من بيت العنكبوت
عن الديمقراطية قال محمود درويش “هناك مثقفون عرب يتباهون بالديمقراطية القادمة على ظهر دبابة أمريكية”، وعنها قالت الأديبة احلام مستغانمي “إحلال الديمقراطية هى الذريعة التى تم تحت تسميتها تدمير أوطان عربية فتية”، وهى القائلة أيضاً: “عندما تكون الديمقراطية هبة الاحتلال، كيف لك ان تتعلم الحرية من جلادك”.
نتحدث عن الديمقراطية بمناسبة يومها العالمى الذى يصادف 15 سبتمبر من كل عام، وفى شأن هذه المناسبة قيل الكثير ومن قلب ما طرح وأثير فى ساحتنا المحلية بهذه المناسبة فوجئنا بتلك التصريحات الفذة التى اطلقها العديد من المسؤولين والنواب والشوريين وكلها صبت باتجاه واحد يؤكد على “أن الديمقراطية فى البحرين بلغت مستويات متقدمة فى العمل الديمقراطي والممارسات الديمقراطية، وان ديمقراطيتنا ترتكز على ثوابت وطنية تتطور عبر الوعي السياسي”، وهناك من ذهب إلى القول إن “البحرين نموذج من النماذج المتميزة عالمياً فى الديمقراطية “، كل ذلك وغيره منشور وموثق ويمكن الرجوع اليه.
لسنا فى وارد التعليق على تلك التصريحات وما إذا كانت ديمقراطيتنا حقاً يشار لها بالبنان، وانها بالفعل من النماذج المتميزة عالمياً، ذلك أمر أتركه لكم، وأتمنى أن يكون بمقدورالجمعيات والمؤسسات المعنية، وفى المقدمة الجمعيات السياسية أن تتوقف بجرأة عند هذه المسالة وأن تضع النقاط على الحروف وبكل شفافية حول ما إذا كان يمكن أن نأخذ ذلك الكلام على محمل الجد، وأننا بالفعل نعيش تجربة متميزة عالمياً فى الديمقراطية.
يمكن بشكل عام القول إننا لم نكن بحاجة إلى التجليات الأخيرة على كل الصعد، محلياً وعربياً ودولياً لنتيقّن بأن الديمقراطية باتت مفروغة من مضمونها، وأصبح يغلب عليها الطابع الكاريكاتوري، وان الممارسات التى تستظل بالديمقراطية تتسم بالقحط، بل وتمعن فى تشويه الديمقراطية وتعمق حسنا بأن الكلام الرنان الطنان عن الديمقراطية ليس له حضور على ارض الواقع، ولم يعد مستساغاً اليوم الحديث عن الديمقراطية، او نزعم بوجود دول ديمقراطية، ذلك يبعث على السخرية وأصبحت مقولة “أوهن من بيت العنكبوت “تنطبق على حال الديمقراطية .
نعلم بان كلمة الديمقراطية هى من اكثر الكلمات تداولاً فى واقعنا الراهن، اننا استخدمناها ولازلنا نستخدمها فى كل شيئ، حين نتحدث عن الانتخابات والبرلمان فإننا نأتي على ذكر الديمقراطية، بل هى أول الشعارات التى تنطلق، وحين نتحدث عن السياسة وما يفترض ان ينهض به الوطن، وحين نطالب بالمساءلة والشفافية والنزاهة وبمحاربة الفساد، وحين نتطرق الى حقوق الانسان، والى واقع مؤسسات المجتمع المدني، وعن الشأن الشبابي، والملف الرياضي، وحين التحدث عن اي شيئ، فان كلمة الديمقراطية تفرض نفسها ان لم تسبق كل الكلمات، وبالرغم من الاستفاضة فى الحديث عن الديمقراطية فى كل شأن ومجال وميدان نظرياً إلا انها تتراجع تطبيقياً وبشكل فظيع فى جميع أنحاء العالم، وهذه حقيقة باتت اليوم ساطعة، لا غبار عليها ربما اكثر من اي وقت مضى، وإن وجدت تكون فى الغالب الأعم ديمقراطية صورية، منقوصة، مشوهة، مضللة، معقدة، او ديمقراطية الحد الفاصل، ديمقراطية حسب ارادة اللاعبين ..!
نعلم، والكل يعلم أن الديمقراطية تشهد حالة من التراجع على مدار السنوات الماضية فى ظل هيمنة الاستبداد والحروب والمتغيرات والتحديات التى تحيط بنا من كل حدب وصوب وما تآكل الحريات والعمليات الانتخابية الشكلية والقيود على حرية الرأي والتعبير إلا ترجمة لهذا التراجع، لتظل الديمقراطية فى جوهرها مجرد عناوين براقة وشعارات زائفة رغم أن الديمقراطية فى المفهوم اليوناني تعنى تقريباً حكم الشعب، وفى وثائق الأمم المتحدة تعنى تعزيز حقوق الإنسان، والتنمية والسلام والأمن والحكم الرشيد، وهى الحقوق التى تتعرض للهجوم فى أنحاء العالم ، وقمة المفارقات المضحكة والمبكية فى آن واحد حين نجد ان القيود والممارسات التى تحد من الديمقراطية وتدفع بها إلى الموت سريرياً وهى ترتدى لبوس الديمقراطية كقشرة تغلف وتغطي الاستبداد وتقيد الحريات، وحين يفرض عليك ليس فقط القبول بهذه الديمقراطية وان تتكيف معها بل امتداحها والإشادة بها، وهذا وضع ليس هيناً لا ذاته ولا فى دلالاته ..!
بالنسبة للحالة العربية تحديداً فإنه يكفى الإشارة استناداً الى واقع الحال وما ورد فى عدة تقارير بأن كثيراً من الدول العربية قابعة فى ادنى مراتب مؤشر الديمقراطية، بل ضمن مستويات تنتقص من الديمقراطية وفى احسن الأحوال تجعل من الديمقراطية هجينة او استبدادية تعيش موتاً سريرياً لكثرة القيود والمحاذير والحواجز والممنوعات والانتخابات الصورية، وهذا أمر يحتل مركزه فى لائحة المآخذ التى تجعل التجارب الانتخابية العربية عليها اكثر مما لها، البرلمانية، البلدية، المجالس والجمعيات الأهلية وغيرها، مع ملاحظة ان هناك باحثين اعتبروا أن دول المنطقة العربية ليست ديمقراطية بشكل واضح ، ولا استبدادية بالمطلق وانها تقع فى المنطقة الضبابية، اي ما بين الديمقراطية الليبرالية والاستبدادية المغلقة وقد يكون ذلك منسجماً مع ما قاله أمين عام الأمم المتحدة فى رسالته إلى اطلقها بالمناسبة المذكورة حين أكد بأن الديمقراطية تتعرض لهجوم من جميع انحاء العالم، وان الحريات تنتقص، والحيز المدني يتقلص، والاستقطاب يزداد حدة، وانعدام الثقة آخذ فى الازدياد ..!
نعود إلى مناسبة اليوم العالمي للديمقراطية، لقد وجدنا من يتساءل، وهو محق فى هذا التساؤل: عن أي ديمقراطية يحتفي بها العالم فى الوقت الذى تذبح وتداس بالأقدام فى مشاهد وممارسات ومواقف تتكدس كما لم يحدث من قبل فى تاريخ العالم، وكأننا امام ملحمة تُسطّر فى اغتيال الديمقراطية، وإن ذلك يحدث على مرأى ومسمع العالم ..!
أليس ذلك ما يحدث فى الأراضي الفلسطينية، فى غزة والضفّة الغربية، لقد تابع العالم كيف ان كل معانى ومفاهيم وقيم الديمقراطية وهى تسقط فى الحضيض على يد الكيان الصهيونى الذى هناك من يقدمه ويظهره بصفته النموذج الديمقراطي فى منطقة الشرق الأوسط، وكذلك الحال بالنسبة للولايات المتحدة التى كانت تقدّم نفسها بأنها راعية وحامية الديمقراطية فى العالم، بل وتطالب دول العالم الأخذ بهذه الديمقراطية والالتزام بمقتضياتها، وكذلك على صعيد دول العالم الغربي التى صدعت رؤسنا بالحديث عن الديمقراطية و بأنها “ترسانة الديمقراطية “، لقد وجدنا تلك الدول وبصورة بالغة الفجاجة والوقاحة وهى تنحاز إلى همجية ووحشية الكيان الصهيوني وتمدّه بالأسلحة والعتاد، وتعرقل المحاولات التى تستهدف مساءلة ذلك الكيان فى المحافل الدولية، الأمر الذى جعل الديمقراطية تصاب على يدهم بنكسة قاسية جداً ذهب البعض إلى حد وصفها بأنها قاضية ..!
يعنى ذلك وبصورة جلية ان أقنعة الديمقراطية سقطت فى معاقلها، وما كشفت عنه الفظائع والمجازر التى ارتكبها الكيان الصهيوني فى الأراضي الفلسطينية اكدت ذلك، لا ديمقراطية، ولا حقوق إنسان، ولا إنسانية، كما أن مواقف تلك الدول الداعمة بمختلف أشكال الدعم وبلا هوادة لكل ذلك الفلتان والهمجية من جانب ذلك الكيان والتى وصلت إلى حد المشاركة المباشرة فى ارتكاب جرائم الإبادة بما قدمته تلك الدول من أسلحة وعتاد ودعم سياسي وإعلامي وتزوير حقائق ووقائع عديدة، وهى مواقف لاتزال بلا شك ماثلة للجميع على كل المستويات ..!
جانب آخر من جوانب ضرب الديمقراطية فى الصميم، حين وجدنا بعض الدول الأوربية التى تحمل راية الديمقراطية و حرية الرأي والتعبير وتدعو إلى توطيد أركان تلك المفاهيم فى دول العالم وهى تتعامل مع الاحتجاجات العارمة فى أراضيها إحتجاجاً على كل الفظائع وكل أشكال الهمجية التى حدثت ولاتزال تحدث فى الأرض الفلسطينية ومحاولاتها إسكات صوت الحق الذى نادى به المحتجون، وهى الاحتجاجات التى بدأت بالجامعات وقوبلت بالتهديد وبالقمع واقتحام الجامعات واعتقال الطلبة وتفكيك مواقع الاعتصام وشكلت صدمة حقيقية لكل مفاهيم الحرية والديمقراطية وامتدت المهزلة الى فصل او توقيف أكاديميين وغيرهم من أعمالهم بتهمة مواقفهم المهادنة أو المساندة لتلك الاحتجاجات أو لوقوفهم أو تعاطفهم معها وإعلان رفضهم للإبادات الجماعية لغزة واهلها، مما شكل ذلك مستجد فى منتهى الأهمية لكونه مثل صحوة تنتشر بحقيقة القضية الفلسطينية ..!
الكيان الصهيوني اضافة الى كل الانتهاكات البشعة التى ارتكبها وعدم تردده لحظة فى استهداف وقتل أطفال ونساء وأسر كاملة، لم يتردد إلى جانب ذلك فى استهداف عمال اغاثة وسيارات اسعاف، كما لم يتردد فى قتل إعلاميين من صحفيين ومراسلين وكل من يحاول نقل الصورة الحقيقية واظهار المدى الذى وصلت اليه وحشية وغطرسة هذا الكيان، وسط صمت وتواطؤ وعجز دعاة الديمقراطية ومواقف عربية رسمية مخزية ..!
حقائق مُرة بالتأكيد، والحقيقة الكبرى التى يجب ان نعيها بعيداً عن شيطان التفاصيل ان هناك من جعل الديمقراطية حق يراد به باطل، خاصة حين النظر الى جوهر الديمقراطية، وأساسيات هذا الجوهر وفى المقدمة منها احترام حقوق الانسان وحريته وكرامته الإنسانية واعتبارها حقوقاً أساسية لا يجوز المساس بها، ولنتذكر، ونذكّر بهذه الحقيقة على الدوام فى وقت نحن فى امس الحاجة إلى تنشق شيئ من هواء الديمقراطية الحقة .