أفهم أن يتنافس الأثرياء وميسورو الحال على اقتناء السلع ذات العلامات “الماركات” التجارية الشهيرة، كي يتموضعوا في الطبقة المادية والاجتماعية التي ينتمون اليها ولكي يتماهوا مع امثالهم واقرانهم وأقربائهم وزملاءهم في المدارس والنوادي وفي مجمل الحياة الاجتماعية. ذلك ديدين أغلب العائلات ذات المال الوفير في زمننا، ليس في بلدنا فحسب ولكن في كل مكان على هذا الكوكب، لكن المفارقة الغريبة أن ينخرط في هذا التوجه الاستهلاكي الخطير بل والمدمر طبقة محدودي الدخل ومتوسطي الحال وأبناء وبنات المدراء والمهندسين والأطباء الذين ضحى أهلهم بجزء كبير من مداخيلهم لتأمين تعليم لائق لهم، وأدخلوهم المدارس الخاصة كي يتفاجئوا بأبناء لم يكتسبوا سوى التقليد ومحاكاة زملاء لهم، يفوقونهم مالاً ومقدرة مالية.
إنّه “غربال العائلات” كما روت لي إحدى الأمهات. تقول الأم: “نحن أبناء طبقة فقيرة بنينا أنفسنا وتعلّمنا كي نرتفع بمستوانا المادي ونؤسس عائلاتنا ونأخذ ابناءنا إلى التعليم الافضل نسبياً، ومن البداية شعرنا بفداحة هذا الاختيار، ووجد أبناؤنا أنفسهم أمام محيط من الأثرياء الذين لا حديث لهم إلا عن الماركات، وآخر صيحات الموضة، فإما مجاراتهم أو الشعور بالحرمان أو التقوقع والإنزواء. هنا يدور الحديث والتنافس والسباق عن القميص وعن الحقيبة والحذاء و”التي شيرت”، وحتى سيارة الأبناء التي تقلّهم إلى المدرسة، تدخل هي الأخرى في حلبة السباق المظهري.
تضيف الأم: “لقد تحوّل أبناؤنا إلى مخلوقات غريبة لا تشبهنا ولا تنتمي لطبقتنا،هل جنينا نحن عليهم؟ وهل ثمّة سبيل لمعالجة هذا الخلل الكبير في تربيتهم، هل ننتشلهم من هذا المحيط ونسارع إلى ادخالهم إلى مدارس وبيئة اخرى أم أن أوان تقويم هذا الخلل قد فات؟. تتساءل هذه السيدة.
لا يقتصر الأمر على فئة الطلاب الأصغر عمراً والاقلّ ونضجاً، إذ نجد هذا التوجه الاستهلاكي المدمر حتى لدى الأكبر سنا كفئة الموظفين الصغار، فأول ما يفعله بعضهم مع استلامهم لأول راتب هو اقتناء سيارة فاخرة تستهلك أكثر من نصف مدخول صاحبها، وأما المبتدئون في عالم التجارة فكثير ما نرى نماذج يستغرقهم المظهر أكثر من أي مبدأ او قيمة في هذا العالم الجديد، يسارعون إلى اقتناء الماركات الباهظة ويتناسون أبسط ابجديات العمل التجاري ويخلّون بالتوازن المطلوب والمتدرج على سلم الصعود في عالم المال بين المصاريف والمداخيل، فينزلقون إلى الإفلاس سريعاً وتتلاشى أحلامهم، وهم الذين كانت شخصياتهم وذكائهم يبشران بنماذج واعدة. لا عجب أن تنتشر في مجتمعاتنا، خصوصاً في العقدين الأخيرين أشكال متعددة من المحتالين وطالبي الثراء السريع وأصحاب الشركات الوهمية والمنخرطين بوعي او دون وعي نحو عمليات مالية وتجارية مشبوهة. ليس هدف أغلب هؤلاء طلب العيش الحر الكريم، وإنما الصعود الصاروخي إلى عالم السلع والماركات.
“الماركات هي أكبر كذبة تسويقية صنعها الأذكياء لسرقة الأثرياء فصدّقها الفقراء”، مقولة شهيرة منسوبة لأحدهم، العبرة منها والضحية فيها هم الفقراء ومتوسطو الحال الذين ضاعت أموالهم وجهود عمرهم وعرقهم على تفاهات وأسماء تجارية ملأت سماء الإعلام والدعاية. تُرى كم يُمثّل هذا الإنفاق والهدر المالي من مدخول العائلات البسيطة والمتوسطة، وكيف يجيء على حساب أمور حياتية وأولويات أهم لدى العائلات كالغذاء والتعليم والتطبيب وتنمية المهارات والمعرفة وحتى السفر والترفيه.
أن يتربى المرء على هذا المنوال ويعرٌف نفسه بالسلعة التي يقتنيها والحذاء الذي يرتديه يعني انه لم يجد شيئا آخر يسعى من أجله او يجتهد لبلوغه ولسان حاله يقول “دع الماركة تتحدث”! ما عسانا نترجى من جيل “الماركات” ؟