ماركيز و”في أغسطس نلتقي”

0
17

ما أن وقعت عيني على أولى فقرات “في أغسطس نلتقي” لغابرييل غارثيا ماركيز، حتى بدا لي أن كل سطر فيها ينطق بإسم كاتبها، فأسلوب غابرييل المهووس جداً بالتفاصيل، والدقيق جداً في تسمية الأشياء إلى حد اختراع تصريفات جديدة للأفعال وابتداع تشبيهات لم يتخيلها أحد من قبله في ربط الأشياء ببعضها والمشاعر ببعضها، وعينه الراصدة لكل أصوات وتحركات الحياة والناس من حوله، حاضرة بما لا يترك مجالاً للشكّ في أن كاتب هذه الرواية القصيرة جداً هو “الغابو”.

الرواية وخلافا لمنهج الواقعية السحرية الذي سار عليه أدب غابرييل ماركيز، هي خالصة الواقعية، وتخلو تماما من السحرية، ولست أدري فأنا لا أعتبر نفسي قارئة مخلصة لماركيز، حيث لم أقرأ له سوى روايتين صغيرتين “قصة موت معلن” و”مذكرات غانياتي الحزينة”، وفي كلتيهما لم تقابلني قصة واقعية صِرفة تخلو من سحر الخرافة لغابرييل كما هي الحال في “في أغسطس نلتقي”.

تتناول الرواية “أزمة منتصف العمر” للسيدة آنا ماجدلينا باش، من خلال حياتها العائلية وسفرها السنوي في السادس عشر من أغسطس كل عام لزيارة قبر والدتها في جزيرة بعيدة تقضي فيها ليلة من السنة بمفردها. وربما هي المرة الأولى لغابرييل التي يكتب فيها قصة تكون فيها البطولة المطلقة لامرأة، ولهذا السبب بالذات أقول إن ماركيز لم يكن ليكتب هذه الرواية إلا في آخر أيام وعيه بأنه كاتب، فلكي يتجرأ رجل، أيّ رجل كان، أن يصف الهواجس الداخلية لامرأة تتأرجح بين السادسة والأربعين، والخمسين من عمرها يلزمه أن يختبر المرأة في حالاتها الثلاث: أماً، زوجةً، ابنة.

ربما يكون هذا هو أيضاً السبب الذي جعل الرواية تخلو من سحر الخرافة، فغابرييل ظنّ في نفسه أن قد خبر المرأة وعرف أسرارها، والمعرفة كما ندرك كلنا تلغي سحر الخرافة!

وهنا اعترف أنني لم أستطع إبعاد شبح رواية “لائحة رغباتي” للكاتب السينمائي الفرنسي غريغوار  ديلاكور وأنا أقرأ هذه الرواية. رغم معرفتي بأن المقارنة عادة سخيفة اجتاحتني مؤخراً أسهمت مع عوامل أخرى في إفساد متعة القراءة عليّ!، فماذا أفعل إذا كانت بعض الروايات تترك ظلالاً كثيفة في نفسي فترغمني على ارتكاب هذه المعصية: “المقارنة”!

كلا الرجلين كتب عن المرأة في منتصف عمرها، وكلاهما كان جريْ جداً في اقتحام العالم الداخلي للمرأة، فبينما اختار غابرييل أن يبقى في مسافةٍ آمنة بالاحتماء بالراوي العليم في سرده لحياة ماجدولينا باش وكشف هواجسها الداخلية، كان غريغوار ديلاكور الأجرأ في اقتحام العوالم الداخلية للنساء بدخوله إلى أعصابهن الحيّة باستخدامه للضمير “أنا” متلبساً روح بطلته “جوسلين” متحدثاً عنها وعن عواصفها الداخلية.

في هذه المقارنة أجد أن غابرييل رجلُ كَتب من واقع معايشته للمرأة، كتب عن قرب، لكن رغم معايشته الطويلة والحميمة لم يستطع أن يكون إلا رجلاً كتب بشجاعة وجرأة قصة امرأة في أكثر مراحل حياتها تعقيداً. سيدة كآنا ماجدلينا كما وصفها غابرييل، امتلكت كل هذا الاعتزاز بالنفس والتوازن الداخلي والذكاء وعمق البصيرة التي جعلتها لا تقع أبداً في شباك أكثر الشباب سحرا في زمانها رغم إلحاحه الطويل ووقوفه اليائس أمام بابها، لا يمكن لها أبداً أن تنحدر كل هذه المسافة لتسقط في السادسة والأربعين من عمرها في هاوية العلاقات العابرة، ما هكذا تكون أزمة العمر عند النساء، قد تحبّ المرأة رجلاً وجدت عنده ما لم تجده عند زوجها من مشاركة فكرية ووجدانية، قد تحبّه بصدق وبصمت أو تقدم على الانتحار اجتماعيا بإفصاحها عن مشاعرها، لكنها لا تنحدر أبدا لقاع العلاقات المتعددة العابرة التي تدوم ليلة واحدة في السنة.

 في هذا كان غابرييل رجلاً جداً وهو يحاول أن يشرح المرأة، بينما غريغوار ديلاكور بلائحة رغبات بطلته كان رجلاً تلبسته روح امرأة قررت أن تروي بنفسها ما يمور في داخلها من عواصف وعواطف، لم تخالجني لحظة شك وأنا أقرأ له أن الكاتبة امرأة، وكم من مرات عدتُ الى اسم الكاتب لأتأكد أنه فعلا رجل!

في رأيي، ورغم أن هذه الرواية كانت ستكون نقطة تحوّل كبير في مسيرة العظيم غابرييل تميل بقلمه نحو الواقعية الفجة لو سمحت له بذلك الذاكرة والأيام، إلا أن غابو كان محقاً في رفضه نشر هذه الرواية التي حتى وإن كانت جميلة اللغة، مدهشة الوصف، ومشوقة حتى آخر كلمة إلا انها محاولة ساذجة جداً في ولوج عالم المرأة بالنسبة لكبير مثل غابرييل غارثيا ماركيز.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا