لفتني عنوان كتابٍ وجدته ذات مرة في أحد معارض الكتب: “من سيبكيك عندما تموت”، لمؤلفه روبين شارما، صاحب الكتب الأكثر مبيعاً في حقل التطوير الذاتي والتنمية البشرية “الرائجة في زمننا”، ومُلخّصها أنّ على المرء أن ينتهج التفكير الإيجابي لكي يحظى بحياةٍ صحيّة وسعيدة. يحتوي الكتاب على قصص عديدة و101 نصيحة من قبيل: “انظر إلى مشاكلك على أنها فرص، أنشئ حساباً للحب، عيّن مجلس إدارة لنفسك، تذكّر أنك تحتاج ل 21 يوماً لتتبنى عادة جديدة، احصل على ثلاثة أصدقاء رائعين، تعلّم الصمت وتأمّل وغامر وخاطر وأحبّ عملك واختر منافسيك وتواضع، وأعد كتابة قصة حياتك بين الحين والآخر، وتوقّف عن إدانة الآخرين، وأحط نفسك ببيئة نقيّة ومُحبّة، ثم تذكر أنك ستموت، لذا يجدر بك أن تعيش بشكلٍ كاملٍ وسليم ومريح”.
الكتاب خفيف، وزناً ومعنى، وقد قرأته سريعاً، لكن ظلّ عنوانه الجذّاب عالقاً بذهني، وقد ألهمني فكرة أخرى: ليست القصة فيمن سيبكينا بعد الموت، ولكن أن يجد المرء من يلجأ إليه قبل أن يموت، وحين يمرض ويحتاج ويشيخ أو تداهمه اللحظات المصيرية بين أن يكون أو لا يكون، وتلك نعم قد تبدو سهلة ومتوفرة لكنّها ليست كذلك للعديد من البشر في وقتنا الحاضر.
قبل شهر استيقظ أحدهم على ألمٍ شديد في صدره، صرخ عالياً منادياً زوجته، سارعت إلى أخذه إلى أقرب مستشفى. تلك عوارض جلطة أو نوبة قلبية، قال له المسعف: “لماذا النوبة لشابٍ رياضي يسبح ويتريّض ويجري كل يوم، ولم يشك من أي عارض غير طبيعي؟”. كان الألم لا يطاق، تمّ حقنه بالمهدئ، جرى التنسيق مع مركز محمد بن خليفة لأمراض القلب في عوالي. عرف أن الأمر جديّاً ومصيرياً على وقع شدّة الألم وسرعة حضور الإسعاف وانطلاقه كالصاروخ وسط يوم مروري مكتظ. سمع زوجته تهاتف ابنها للالتحاق بهم في المستشفى. حين وصل كانت غرفة العمليات جاهزة، أخبره الطبيب الاختصاصي بعملية القسطرة الفورية والضرورية لإنقاذ حياته. استيقظ بعد ساعة، وتساءل في نفسه: “أهو التوتر والضغط والحزن الناجم عن متابعة الاخبار اليومية؟ في المساء كان الأهل والأصدقاء يحيطون بسريره رغم قصر مدّة الزيارة ومحدوديتها، أما سبب الازمة فهو ارتفاع الكولسترول، القاتل الصامت كما أخبره الطبيب، كيف حدث ذلك؟ تذكّر شقاوته وطفولته وعدد المرات التي نجا فيها من الموت بأعجوبة، فيروسات وميكروبات متوحشة ومتنوعة في الطفولة، صعقة كهرباء في المراهقة، حادث سير في مطلع أربعينات عمره، عدّة اصابات بكورونا في موسمها القاتل. كيف غلبه الكولسترول؟ وكيف أغفل هو نفسه أهمية الفحص الدوري؟
لاحقاً عرف أنه سيكون عضواً في نادي القلوب المريضة، أو إلى حين التعافي تماماً، وأن سلسلة من الإجراءات والتوجيهات تنتظره كل يوم. حياة جديدة ومغايرة لما سبق، تذكر أنّه وقبل العارض بيومٍ واحد شعر بالتعب اثناء ممارسته تمرين الإحماء في النادي الرياضي، أسرّ للمدربة بشكواه فقالت له: “لا عليك! أنت شاب صحيح البدن وليس بك شي”، لكن جسده كان يقول شيئاً آخر. ترك الصالة متوجساً وأقفل عائداً إلى البيت، وفي الصباح التالي كانت الأزمة، هل في الحياة المقبلة متسع للعتب أو “الشره” أو تحميل هذا أو ذاك مغبة ما حصل؟
لقد كتب له عمر جديد بفضل تلك الزوجة المحبّة التي كانت بقربه حين صرخ “آه”، وتلك أعظم كنوز الحياة التي لا تقدّر بثمن. لا نحتاج لمن يبكينا حين نموت بل أن نجد من يحبّنا ويداري عيوبنا ويغطي نواقصنا ويرحمنا ويطبطب علينا وينقذنا ويسعفنا ويقف معنا في أحلك لحظات عمرنا.