حين يُستعاض بالشكل عن المضمون
من الواضح أن وضع جمعياتنا ومؤسسات مجتمعنا المدنى أصبح منذ سنوات ولغاية الآن يمضي نحو فترة ملاحة فى بحار صعبة، عاتية الموج، وبات هدف اعادة النظر فى وضع هذه الجمعيات والمؤسسات همّ لم ينشغل به الجميع للأسف الشديد، وفى المقدمة المعنيون بأمر هذه الكيانات التى أصبح الكثير منها فى حال ليس مبالغة وصفه بأنه مأساوي بكل معنى الكلمة بعد ذلك الردح الرفيع المستوى الذى كان يصب فى مجرى اعتبار هذه الجمعيات والمؤسسات شريكاً أساسياً فى تنمية المجتمع، و دفع مسيرة الوطن، إلى آخر المعزوفة.
اليوم اختلف حال هذه الجمعيات أو كثير منها. هناك جمعيات اندثرت، وأخرى تشظّت، وثالثة ضعفت، ورابعة اضطرت اضطراراً أن تراوح فى مكانها لا تملك من أدوات العمل إلا اليسير، وحتى هذا اليسير من العمل يدور فى اطار محدود للغاية، هناك من اعتبرها “حيّة رسمياً وميتة سريرياً”، وهى التى كان يشهد لها فى فترة مضت ذلك الزخم من الحيوية والحراك الفاعل والمتفاعل الذى كان يلهب الوجدان مع ملفات وطنية كثيرة إثر انطلاقة الميثاق الوطني، ولكن تغيّر الحال، ولا نعرف ما إذا كانت هناك فرصة، أو مجال، أو نيّة، او مشروع، أو توجه، لإعادة النظر فى واقع حال هذه الجمعيات والنهوض بها مجدداً، وتذليل العقبات التى تناسلت وتكاثرت ويبدو أنها فى طريق المزيد من التكاثر فى ضوء خطوات وقيود ومنع أنشطة أثارت مخاوف مضاعفة لتحجيم دور وأنشطة هذه الجمعيات والمؤسسات، وأحسب ان البحرينيين يعرفون “القدر وغطاه” لذا لا موجب لشرحٍ يطول أو يقصر فى هذا الوضع.
من الواضح للعيان أننا أمام وضع نرى ونتابع ونلمس فيه إمعاناً يصل إلى حدّ التعسف فى التضييق على مؤسسات مجتمعنا المدني، وأمامنا نموذج حي لهذا التضييق هو منع نادى العروبة، وهو نادى ثقافي عريق من إقامة ورشة عمل حول رؤية البحرين 2050، وعلينا أن ننتبه إلى أن ذلك المنع جاء قبل يومين من الموعد المعلن بذريعة “أن الورشة لا تتفق مع نصوص القانون وأهداف النادى”. هذا بالنص ما جاء فى خطاب الوزارة المعنية وهى وزارة التنمية الاجتماعية فى خطابها المانع للندوة، والمفارقة الغريبة التى أثارت الكثير من علامات الاستفهام والتعجب ان هذا المنع جاء فى وقتٍ كان فيه صاحب السمو الملكي ولي العهد رئيس الوزراء قد وجه دعوة للجمعيات ولمنظمات المجتمع المدني للمساهمة فى تقييم رؤية 2030 والمشاركة بالأفكار والمقترحات فى اطار التحضير لرؤية 2050، وهذه حقيقة يعلمها الجميع وأكدها النادى المذكور وهو يعلن عن إلغاء الورشة، وهو موقف لا يخلو من خلاصة أن ذلك المنع لا ينسجم مع تلك الدعوة.
على خلفية تلك الخطوة ليس غريباً أن تتدفق تلك الوفرة فى التعليقات والانطباعات والتحليلات والتساؤلات التى جرى طرحها وتداولها عبر العديد من المواقع الإليكترونية، والتى إن عبرت عن شيئ فإنما تعبر بوجه عام عن حالة من القلق تعيشها مؤسسات مجتمعنا المدني وهذا أمر لم يعد بحاجة إلى شرح او اثبات بقدر الحاجة إلى المراجعة والتصويب، وبالإضافة الى ذلك جاء إيقاف بعض الفعاليات من ندوات ومحاضرات كانت تعتزم تنظيمها بعض الجمعيات والاتحادات والمجالس بمناسبة مرور عام على “طوفان الأقصي” كمثال آخر أوقع الجميع فى الحيرة وأثار أسئلة وتساؤلات لم ولن نجد لها إجابات، لا واضحة ولا مبهمة، وكان الله فى عون الجميع.
لا نعلم إن كان ذلك الموقف المانع لهذا النشاط او ذاك بمثابة رسالة موجهة إلى الأندية ومؤسسات ومنظمات مجتمعنا المدنى عنوانها “عدم الحركة”، وكأن المطلوب أن نضيع ونتوه وسط شعارات رخيصة ابتذلت، وقُصر نظر، وأفق محدود يراد منه وفى أبسط تحليل ان نعيش الهواجس وان “نضرب ونطرح”، وأن تقف هذه المؤسسات والجمعيات على حافة من الانهيار، بمعنى ان نستعيض بالشكل عن المضمون، وإلا “بتشوفون شيئ ما يعجبكم”!
ما نعلمه جيداً أن واقع مؤسسات ومنظمات مجتمعنا المدنى، ومن ضمنها إن لم تكن فى المقدمة منها جمعياتنا السياسية، اصبح يمثل ملفاً مهماً وواسعاً ويمكن لنا ولغيرنا من المنخرطين والمتابعين والمهتمين تبيان ما آلت إليه كثير أو معظم هذه الكيانات، وأوجه المعاناة والتضييق التى تواجهها والتى باتت لافتة للانتباه والاهتمام وكانت موضع نقاش فى اكثر من مناسبة، من ندوات وحوارات، ونقاشات فى مجالس أهلية لعل آخرها الندوة التى نظمتها جمعية مبادرات البحرين الوطنية فى 7 اكتوبر 2024 تحت عنوان “المجتمع المدني .. بين الواقع والتحديات”، وقبل ذلك يأتى اللقاء المهم الذى دعت له جمعية الاجتماعيين البحرينية، فى 7 يونيو 2024 بمشاركة ممثلين عن الجمعيات الأهلية والمهنية والاجتماعية، إضافة إلى مجموعة من المحامين لوضع تصور لمشروع قانون للجمعيات الأهلية لجعل عملها “اكثر سلاسة ومرونة” بما ينسجم مع مبادئ الميثاق الوطني، وخرج هذا اللقاء بتشكيل لجنة من 8 من أعضاء الجمعيات المشاركة لوضع ذلك التصور، ولا نعلم أين وصل هذا الحراك، وما إذا ستكون هناك جدوى من اي مسعى يستهدف تحسين حال هذه الجمعيات ونقلها من حال إلى حال ،فى هذا الوقت ، فى هذا الوقت بالذات.
إن المرء لا يستطيع أن يمنع نفسه من المقارنة بين الحال الذى كانت تتمتع به هذه الكيانات حين انطلقت مسيرتها مع انطلاقة الميثاق الوطني وبين الحال البائس الذى آلت اليه حالياً، وهو حال فرض على الجميع فرضاً، وكأنه قدر مكتوبا خيار لنا فيه، وذلك أمر محزن لا ريب وسيئ فى ذاته، لكنه أسوأ فى دلالته، لأنه يعنى فى أبسط تحليل اننا بصدد تراجع أسوأ ما فيه انه يدفعنا إلى تيه لا يظهر عليه أفق حين يكون المتبقي من جمعياتنا ومؤسسات مجتمعنا المدنى مجرد واجهات شكلية تعيش واقعاً يزخر بالمفارقات.
مهما كانت درجة اختلاف الزوايا التى ينظر منها أي طرف إلى هذا الملف وحتى لا نصل إلى تلك الدرجة من التيه، فإنه يبقى ملحاً التأكيد على حاجتنا الملحة إلى مراجعة جريئة لأوضاع جمعياتنا ومؤسسات مجتمعنا المدنى، هذه مسؤولية كل المعنيين بالأمر المطالبين دون التباس بإعادة النظر فى ما آل اليه وضع الكثير من هذه الكيانات والعمل بجدية على النهوض بواقعها وهو أمر فى نطاق الممكن، ولا يحتاج أى معجزة من السماء، يحتاج فقط إلى عزم وارادة وقناعة بأن مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات السياسية هى جزء أساسي من اي مشروع يهدف إلى رفعة وتقدم أي مجتمع، ولا ننسى أنها قدمت بالنسبة لنا، ولا زال هناك من يذّكرنا بذلك، باعتبارها بتعدّدها وبمكوناتها وأدوارها وأهدافها وأطروحاتها من افرازات المشروع الاصلاحي، ولكن الآن، بالوضع الحالي المؤسف والضاغط على كثير من المؤسسات والجمعيات إن لم يكن معظمها بحاجة إلى وقفة مراجعة لا مراوغة فيها ترتكز على بصيرة عميقة، وقبلها ارادة تنهض بواقعها.
لدينا 675 منظمة وجمعية أهلية مرخصة فى البحرين حتى شهر اغسطس 2024 وفق بيانات صدرت حديثاً عن وزارة التنمية الاجتماعية، ولدينا حوالى 9 جمعيات سياسية بعد أن كان عددها نحو 20 جمعية، الصامد منها يعانى من فقر دم، ومن أكثر الأشياء إيلاما على النفس أن يصل حال هذه الجمعيات، أو معظمها، إلى الوضع البائس الذى وصلت إليه، حال من الشلل والتراجع والهشاشة، ليس بسبب تراجع عددها، ولكن لكونها اصبحت كيانات شكلية، غير فاعلة، أو مؤثرة كما يجب، وكم كان بودنا لو بادرت الجهات الرسمية المعنية بالإعلان الصريح والشفاف بالإعلان هل تريد هذا النوع من الجمعيات أم لا ؟، والسؤال بعبارة أخرى: هل هذه الجمعيات أصبحت عبئاً ثقيلاً على هذه الجهات مما أدى إلى قطع الدعم المالى عنها، وحصر الدعم على الجمعيات التى لها تمثيل فى المجلس النيابي؟
لا نريد الخوض فى الأسباب والمسببات المتشعبة والمتداخلة التى شكلت أسباباً جوهرية أدت إلى هذا الوضع الذى لم يعد بحاجة إلى توضيح او اثبات خاصة وأن الكثير من المنظمات والجمعيات تعيش اليوم هذا الوضع الذى هو أدنى من الطموحات بكثير، وهذا لا يعني أن هناك كثر ممن يتمتعون بالنيات الطيبة إزاء مسألة تحسين هذا الواقع، ويتفهمون الدوافع التى تستوجب القيام بهذه المهمة، ولكن النيات الطيبة وحدها لا تودى دوماً الى الهدف المنشود ولكننا نريد التأكيد على اهمية العمل وضع هدف النهوض بواقع مؤسسات مجتمعنا المدني من منظمات وجمعيات فى دائرة الاهتمام الرسمى والبرلماني والأهلي، وأرى أن هذا أمر لا يحتاج إلى معجزة من السماء، بل يحتاج قبل كل شيئ إلى إرادة ومعها الرؤى المتبصرة للدور الذى يمكن أن تقوم مؤسسات المجتمع المدني بما يعكس حيوية هذا المجتمع.
رأينا حين انطلاقة الميثاق الوطنى فى ديسمبر 2000 الذى رحب به الجميع كونه يشكل خارطة طريق ونهضة وطن كيف كانت حيوية هذه المنظمات والمؤسسات، وكيف كان لها نشاط ودور وإشعاع حضورها فى مختلف الميادين، ولكننا اليوم نجد كثير منها ان لم يكن معظمها على غير ما نطمح، وبات معظمها مغيبة عن الفعل، بل ان هناك جمعيات حُلت وشطبت ولم يعد لها وجود لأسباب عديدة، أما لخلافات بين اعضائها، او لافتقادها إلى ادارة مؤسسية، أو لغياب وقصور فى هياكلها التنظيمية، أو لمحدودية الفعل الجماعى، او لهيمنة الشخص الواحد او قلة من الأشخاص على ادارتها ومسارها ومصيرها، لدرجة أن وصل الوضع ببعض الجمعيات إلى أن اصبحت حكراً على أسماء محدودة معينة. هذا واقع، بقدر ما هو واقع ان هناك جمعيات إذا ما أخذنا فى الاعتبار والمقارنة تحاول بقدر ما هو ممكن أن تؤكد على صمودها واستمرارية حضورها فى وجه الزحف الجديد من المعرقلات والقيود.
لنعلم، ونتذكر ونؤكد أن كل الأطراف تتحمل مسؤوليتها وفى المقدمة منها الجهات الرسمية المعنية، وكذلك مجلس النواب الذى عليه ألا ينسى مسؤولياته تجاه هذا الملف وأن يضعه فى دائرة اهتماماته، وحتى المؤسسات والجمعيات المعنية مطلوب منها قدر الإمكان أن تضع هذا الملف طالما أنه يهمها بشكل مباشر فى قلب النقاش العام، فلابد من مواجهة شجاعة للإجابة على سؤال محدد: هل نريد مجتمعاً مدنياً قوياً أم لا؟، والسؤال الذى يسبقه ويليه وهو الأهم: هل هناك إرادة فعلية للنهوض بواقع جمعياتنا ومنظمات ومؤسسات مجتمعنا المدني؟