“أنتقل من مكان آخر إلى …زمن آخر”

0
57

مغادرة درويش القاهرة إلى بيروت

ذات يوم في مطلع الستينات، وبينما كان محمود درويش يمشي برفقة إميل توما متجهين معاً نحو مكاتب “الاتحاد” في حيفا، تفاجأ درويش بسؤال لم يتوقعه من  توما: ماذا تفعل هنا؟ حين استفسر عن قصده، ردّ بصوت خفيض: إبحث لنفسك عن أفق!  (ذكر درويش هذه الحادثة في إحدى رسائله الى سميح القاسم). ولكن ما الذي كان  يقصده توما بالتحديد؟  ما هي معالم هذا الأفق المنشود؟ أين يوجد؟ هل سنعثر عليه في مكان معين؟ أو ربما في زمن محدد؟   

حين غادر غسان كنفاني الكويت إلى بيروت مطلع الستينات، كان يبحث عن أفق جديد لحياته.  غسان اختار “التضحية” بالاستقرار المادي الذي وفره له عمله بسلك التدريس في الكويت، لصالح تكريس كل جهده  لخدمة القضية الفلسطينية في منفاه  الجديد بيروت. انتقال غسان كان انتقالاً للمكان المناسب، في التوقيت المناسب، إذ مكنه ذلك من أن يعيش  “العصر الذهبي” لبيروت الستينات  بكل صخبها وتألقها وحيويتها في كافة مجالات الفن والأدب والسياسة. بعد استشهاد غسان بثلاث شهور، شدّ محمود درويش الرحال من القاهرة إلى بيروت، باحثاً عن أفق جديد، بعد أن أدرك أن  “أفقه”  في القاهرة لا يبدو مطمئناً في ظل حكم السادات. كان ذلك عام 1972. “أنتقل من مكان آخر إلى …زمن آخر”حسب تعبيره (من نصّ له بعنوان “وطن بقلم رصاصة”)  فهو  لم يغادر القاهرة كمكان  فحسب  بل غادر الستينات كزمن،  ودخل السبعينات من أصعب بواباتها العربية آنذاك: بيروت.

“لكل قادم إلى بيروت بيروته الخاصة به”  كما قال درويش ذات مرة. “لا نعرف ولا أحد يعرف إلى أي حد يشكل مجموع هذه المدن مدينة بيروت… هل هي مدينة، أم مخيم شوارع عربية وضعت بلا ترتيب، أم هي شئ آخر: حالة، فكرة، إحالة، زهرة خارجة من نص، فتاة تربك المخيلة” . على الرغم من أن درويش نظر إلى  بيروت  بوصفها “ورشة حرية”، إلا أنه لاحظ “بأن كل ما يحدث في العالم يحدث هنا، انعكاساً تارة، ونموذجاً تارة، وقد يتشاجر مثقفان في مقهى باريسي، فينقلب شجارهما الكلامي إلى إشتباك مسلح هنا.”

أوجز الباحث عماد الطروانة في كتابه الشيق “حكاية محمود درويش في أرض الكلام”- مؤسسة الانتشار العربي- لبنان. ٢٠١٦، أبرز العوامل التي أثرت على درويش في مرحلته البيروتية: “تعثر مشروعه الشعري الثقافي بسبب الحرب الأهلية في لبنان. تعثر زواجه من رنا قباني (عمّها الشاعر نزار قباني) واضطراب علاقته بياسر عرفات ما دعاه لمغادرة بيروت، والعودة لاحقا ليصدر الكرمل”.

لن نجازف بالخوض في غمار سرد تفصيلي متعاقب زمنياً لمرحلة درويش البيروتية، بل سنلجأ عوضا عن ذلك الى ذكر بعض الومضات (أحداث/ مواقف) التي تضئ لنا  بعض الملامح من  شخصيته ضمن سياق تلك الحقبة المضطربة .   

الومضة الأولى: لحظة وصول درويش إلى بيروت والحنين إلى”الدامور”.

كتب درويش: “حين جئت إلى بيروت كان أول شئ فعلته هو أنني أوقفت سيارة تاكسي وقلت للسائق: خذني إلى الدامور. كنت قادماً من القاهرة، وكنت أفتش عن خطى صغيرة لولد مشى خطى لا تليق بعمره.” ( الدامور هي البلدة الساحلية جنوب بيروت التي لجأت إليها عائلة درويش خلال نكبة عام ١٩٤٨). يتسائل درويش: “عم كنت أبحث؟ عن الخطى أم عن الولد؟”. ذكرى الطفل ذي السبعة أعوام ،  تطارد الشاعر ذا الثلاثين عاما  “صرت شاعراً يبحث عن ولد كان فيه، في مكان ونسيه. الشاعر يكبر ولا يسمح للولد المنسي أن يكبر”. من وحي تلك الزيارة إلى الدامور نشر قصيدة بعنوان “بين حلمي وبين إسمه كان موتي بطيئًا”، يقول فيها: (يحمل الحلم سيفاً ويقتل شاعره حين يبلغه). تيقن درويش بعد تلك الزيارة، بأن  العودة الى المكان نفسه، لا تعني العودة إلى الزمان ذاته. لحظة الدامور ستكون حاضرة  في نصين نثريين  يوميات الحزن العادي- ١٩٧٣ –  ذاكرة للنسيان- ١٩٨٧) حيث سيلاحظ: “ليس المكان مساحة فحسب. إنه حالة نفسية أيضاً. .. إنه أضلاع الطفولة” .درويش دائم التنقيب في طبقات ذاكرته، حاله كحال الجيولوجي الذي يحفر في طبقات الأرض عميقا ليفهم الأحداث التي مرّت عليها. الفرق هنا، أن درويش ينقب في طبقات الكارثة التي حلت على وطنه والمأساة التي عاشها منذ طفولته. يبدو حنينه  الى “الدامور”  كطبقة تعلو حنيناً سابقاً عاشه في فلسطين المحتلة، حين كان يرغب في زيارة قريته المدمرة “البروة”، فاكتشف إنها مُحيّت من الوجود وقامت على أنقاضها مستعمرة صهيونية..حنينه إلى أماكن الطفولة  شئ لن يشفى منه أبداً. يقول: “تعودت على محاولة البحث وحدي عن شئ حين ضاع ضيعني. وإن مجرد البحث عنه دليل على أنني أرفض الاندماج في ضياعي” . في حوار بليغ  يخاطب درويش الطفل الذي بداخله : “لا تكثر من زياراتك…أرجوك. لاينقصني حزن وبراءة/ تقتلني؟/ حين يقتل الإنسان طفولته ينتحر. وأنا بحاجة إليك كشهادة على جيل”.

الومضة الثانية “تجربة  العمل في المنظمات الجماهيرية”

بعد زيارة الدامور عاد درويش إلى بيروت ليشارك في أعمال المؤتمر الأول للكتّاب والصحفيين الفلسطينيين (٦- ٩ سبتمبر ١٩٧٢) . وفق ما كتبه عبدالقادر ياسين لاحقاً، فإن الفصائل الفدائية عمدت الى نقل مقاتلين من قواعدها (في الجنوب اللبناني) الى داخل المؤتمر ليصبح عدد المشاركين حوالي ثلاثمائة عضو، مما دفع شفيق الحوت إلى قول كلمته المشهورة “هذا مؤتمر الكتاب والقراء !”. سرعان ما تحوّل المؤتمر إلى ساحة تنافس وصراع بين الفصائل الفلسطينية لتوزيع المناصب القيادية فيما بينها، وشكلت لجنة خماسية  للبت في عضوية الأمانة العامة للاتحاد. المثير أن هذه اللجنة رفضت في البداية وبأغلبية الأصوات عضوية محمود درويش للأمانة العامة للاتحاد  للمؤتمر(تمّ قبوله لاحقاً كتعويض عن انسحاب بلال الحسن) . درويش لم يكن محسوباً على أي فصيل سياسي آنذاك، مما أضعف قيمته السياسية في تلك المعارك الانتخابية القائمة على “الكوتا” الفصائلية. يبدو أن تلك التجربة في الصراع بين  ماهو نقابي وما هو سياسي في عمل المنظمات الجماهيرية كانت بمثابة “بروفة” لما هو قادم من صراعات شابت العمل ضمن مؤسسات منظمة التحرير، وعكست “ضياعه” في خضم  صراعات الفصائل الفلسطينية آنذاك.  كان خارجاً من تجربة انتماء حزبي سابق (راكاح)، وخبر محاسنها ومساوئها، ولكنه  لم يرغب في تكرارها بالانضمام إلى أي فصيل فلسطيني آنذاك. نعم كانت أفكاره وتوجهاته يسارية، ولكنه اختار الابتعاد عن الالتزام الحزبي  المؤدلج، سعياً وراء صيانة حريته في التفكير والابداع . لم يقبل “الوصاية” عليه من تنظيم أو حتى من جمهوره .

الومضة الثالثة: عندما رفض درويش إلقاء قصيدة “سجل أنا عربي” !

مطلع مارس ١٩٧٢ خطرت للكاتب اللبناني سهيل ادرويس فكرة المبادرة  باسم “اتحاد الكتاب اللبنانيين” بإقامة أمسية شعرية في قاعة اليونسكو ببيروت (أكبر قاعة في لبنان آنذاك) تتم فيها استضافة خمسة من كبار شعراء الوطن العربي آنذاك:  محمود درويش، نزار قباني، خليل حاوي، بلندر الحيدري ومحمد الفيتوري. غصّت القاعة  بالحضور  وهم يهتفون بعناوين القصائد التي يرغبون بسماعها من الشعراء. حين جاء دور محمود درويش، ضجّت القاعة بعاصفة  من التصفيق الحماسي تعلوها هتافات من الجمهور تطالبه بقصيدة  “سجل أنا عربي” . وقف درويش ملتزماً الصمت،  ورافضاً في نفس الوقت الانصياع لرغبة الجمهور: “أشكركم جداً وأرجو التخفيف من هذه الحماسة العاصفة ولنحاول أن ندخل عالم الشعر”. بدلاً من الاستجابة لطلبات الجمهور، أسمعهم  درويش قصيدته الجديدة  “سرحان يشرب القهوة في الكافتريا ”  وهي قصيدة صعبة الفهم حتى اليوم، على الرغم من جماليتها الشعرية العالية وفق إجماع النقاد. سيتذكر درويش هذا الموقف بعد عشر سنين، خلال حصار بيروت 1082، في شقته تحت وقع أصوات قصف الطائرات الاسرائيلية، موضحا “تاريخ” تلك القصيدة حين ألقاها لأول مرة في فلسطين المحتلة مطلع الستينات: “سجّل أنا عربي، قلت ذلك لموظف قد يقود ابنه إحدى هذه الطائرات. قلتها باللغة العبرية لأستثيره. وحين قلتها باللغة العربية مسّ الجمهور العربي في الناصرة تيار كهربائي سري أفلت المكبوت من قمقمه. لم أفهم سر هذا الاكتشاف، كأني نزعت الصاعق عن ساحة ملغومة ببارود الهوية، حتى صارت هذه الصرخة هي هويتي الشعرية ….لم أدرك أنني كنت في حاجة لقولها هنا في بيروت: “سجل أنا عربي.هل يقول العربي للعرب أنا عربي؟ ياللزمن الميت ياللزمن الحي….هل كنا حقاً في العشرين عندما أخذتني هويتي الى ذلك النشيد المصكوك بحوافر الخيل يلتهمها الأفق المفتوح على أفق مفتوح على أفق لا نعرف إن كان مفتوحا أم مغلقا؟”.

للأسف محطة بيروت لم تمهل درويش فرصة لإكتشاف أفقه الشعري الجديد، فالعنف الذي شلّ حياة تلك المدينة إبان الحرب الأهلية تزامن مع سلسلة من الاغتيالات المتعاقبة لقيادات فلسطينية بارزة تربطهم بدرويش علاقات قوية. لاحقاً سيذكر درويش في إحدى مقابلاته “كتبت مرة في بيروت أهدد أصدقائي بأنني سأسميهم خونة إذا ماتوا (في قصيدة “سنة أخرى فقط”) . ومن فرط ما فقدت من أصدقاء استشهدوا حتى كدت أتحول الى شاعر مراثٍ، رجوت أصدقائي أن يتوقفوا عن الموت.”  في تلك القصيدة يقول درويش ” أصدقائي، من تبقى منكم يكفي لكي أحيا سنة…سنة أخرى فقط…سنة تكفي لكي أعشق عشرين إمرأة..وثلاثين مدينة…أصدقائي شهدائي…فكروا فيّ قليلا..وأحبوني قليلا .. رجاء لا تموتوا..انتظروني سنة أخرى…سنة أخرى فقط …”

لاحقا  كتب درويش عن شعور حاد بالاغتراب داهمه مطلع الثمانينات: “كما أنا غريب هنا، في ربيع 1980، الهواء ينذر بشئ ما، وطريق المطار ينذر بشئ ما، والبحر ينذر . وصرت الغريب الوحيد.”.  في ١٩٨١ نشر قصيدته “بيروت” في العدد الأول من “الكرمل”،  وفيها  نلمح استشعاراً  لما سيأتي: “وداعا للذي سنراه.. للفجر الذي سيشقنا عما قليل. لتطول رحلتنا وحكمتنا. .بعد عام في صيف ١٩٨٢  غزت اسرائيل لبنان وحاصرت بيروت.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا