جوزيه سراماغو في “العمى”

0
69

حكاية من بوسعهم أن يروا لكنهم لا يرون

هل لنا أن نتصور مدينة ما يعيش أفرادها جميعًا عميانًا؟. ماهي الرسالة التي يود الكاتب إيصالها لنا؟

بعد قراءة رواية (العمى) للروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو وجدتُ غموضًا يكتنفها من حيث الأهداف والأسلوب.  كان ذلك في بداية الأمر، وبعد التمحيص والتدرب على فهم المعاني، وجدتُ بأن ما يهدف اليه هو عميق المعنى والدلالة، فالمقصود من ذلك يتوضح شيئًا فشيئًا، ومع ذلك هنالك شيء آخر يلفت الانتباه في هذه الرواية، ألا وهو عدم وجود  أسماء لأبطالها وإنما توصيف لحالتهم، ومثالاً على ذلك الشخصية الرئيسية في  الرواية يطلق عليها  “زوجة الطبيب” فقط وفي  الشخوص أيضًا  كالفتاة  ذات  النظارة الداكنة  والرجل الأعمى الأول والصبي المصاب بالحول والمرأة العمياء والسفاحون العميان ومساعد الصيدلي والمرأة العمياء التي تعاني من الأرق … إلخ.

يقول ساراماغو “ليس ثمة مقارنة بين العيش في متاهة عقلانية، وهي إذا ما عرفناها، مستشفى للامراض العقلية، وبين خوض مغامرة، من دون يد ترشدك أو حبل كلب، في متاهة مجنونة تسمى مدينة، حيث لا تنفع الذاكرة البتة،لأنها ستكون قادرة حصرًا على استدعاء صور الأمكنة  إنما ليست الطرقات التي ربما بوساطتها وصلنا الى هناك”، واستدعى الكاتب في روايته هذه صوراً عديدة لحالة المدينة والناس فيها في ظل هذا الطاعون إن جاز القول، حيث ينتقل مرض العمى من شخص إلى آخر  بطريقة  دراماتيكية عدا زوجة الطبيب التي تقوم بدورالشاهد على الأحداث وعيون ساهرة على كل هؤلاء العميان. كيف لسكان هذه المدينة العيش؟ من أين لهم المشرب والمسكن والمأكل وكيف لهم أن يتبضعوا ويتدبروا أمرهم، وهذا الوباء يصيبهم في أي لحظة، في البيت، في الشارع، في السيارة، في العيادة، في أماكن التسوق …إلخ.

تبدأ الرواية برجل يصاب بالعمى وهو في سيارته عند إشارة المرور لتتوالى الأحداث بعد ذلك ومن ثم ينقل المصابون بالعمى فرادى وجماعات لمصحّة ليعيشوا حياتهم في ظلام دامس، تكون زوجة الطبيب عينهم التي ترى كل شيء على الرغم من أنها لم تبح لهم بسرّها بأنها الوحيدة التي تبصر.

لا شك في أن الجانب الفلسفي في هذه الرواية حاضر من خلال لامعقولية وجود مثل هذه المدينة في الواقع الوجودي، ولكن أراد ساراماغو بذلك أن يسلط الضوء على حال البشر إن لم يكن لهم مرشد، ومدى إمكانية حدوث التضامن فيما بينهم والحب والوفاء والتضحية والإيثار إن وجدً، كما أنه أراد بذلك أن يتخذ من هذا الأسلوب التهكمي  للقول بأن المجتمعات قد تصاب بالعمى الأخلاقي  أيضًا، ليصل إلى القول إنهم  يقومون بتدمير ذاتهم إن استمروا في عدم الالتفات لطريقة حياتهم ولم يولوا الجوانب الإنسانية إهتماما يؤطر إنسانيتهم، فعلى الرغم من المحنة التي يعيشها هؤلاء العميان إلا إنهم كبشر ظلوا متشبثين بروح الناس المبصرين كالأنانية وحبّ السيطرة وإشباع الرغبات والشهوات الجنسية من دون أي رادع أخلاقي، ولكن من جانب آخر تجد النبل الإنساني والرقي  الروحي لدى البعض منهم.

أدرك جوزيه ساراماغو في هذه الرواية وبأسلوب ينمّ عن إمكانيات كبيرة من موسوعيته الثقافية والسياسية بأن الإنسان مع كل هذه المحن يظلّ في سباق وراء المال والسلطة وافتعال الحروب والسيطرة على مقدرات الشعوب وتقاسم النفوذ في ظل عدم تساوى الفرص والفوارق الطبقية والاجتماعية، فجاءت روايته لتسلط الضوء على حياة البشر من منظور فلسفي حيث تداخل السياسي في طيات عمل روائي لتكشف حقيقة الإنسان سواء أكان يعيش في الواقع أو المتخيل اللاواقعي وكيف لهؤلاء البشر العيش في ظل مختلف الظروف وما يتوجب عليهم العيش بالتي هي أحسن رغم تلك الإعاقة المتمثلة بعدم الإبصار.

استهواني ما في الرواية من خيال ساحر، يشدّك إلى عالم متخيل أقرب إلى الواقع ليجعل من المتخيل حياة واقعية على الرغم من عدم معقولية حدوث ذلك. حيث يختتم ساراماغو روايته بالقول: “لا أعتقد إننا صرنا عمياناً، أعتقد إننا عميان أصلًا، نحن عميان لكننا نرى، عميان بوسعهم أن يروا، لكنهم لايرون”، ويمكننا القول بأن ساراماغو وهو الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة1998  أراد بهذا العمل الإبداعي إنجاز ملحمة روائية بأسلوب مختلف كليًا عما هو مألوف وأعطى للقارئ إنطباعًا آخر غير اعتيادي.

قرأت هذه الرواية وفي المخيلة ما عايشناه مع كورونا (COVID 19)، فهل هي مصادفة أن يكون كورونا هو عمى القرن الواحد والعشرين ويصبح طاعوناً؟. إنها قوة الخيال واستشراف المستقبل من قبل ساراماغو وكأنه كتب هذه الرواية لينذرنا بما سيحل بنا اذا ما استمرينا في عدم الالتفات لطريقة حياتنا ونحينا الجوانب الضرورية جانبًا كبناء المستشفيات والمرافق الصحية والمدارس والاهتمام بالإنسان أولًا وآخرًا وباحتياجاته الأساسية وبالعدالة الاجتماعية، بعيدًا عن الجشع وتكديس الثروات عند الأقلية القليلة على حساب معاناة الشعوب واحتياجاتها المعيشية، علما بأن رواية “العمى” كتبت في العام 1995، فيما توفي الروائي في العام 2010. وبالمناسبة فإن جوزيه ساراماغو بالإضافة لكونه أعظم كاتب برتغالي أديب وشاعر ومترجم وصحفي فهو أيضا مناضل زاوج بين الكتابة والنضال من خلال إنتمائه للحزب الشيوعي البرتغالي حتى وفاته، مذكرا إيانا بقول ألبير كامو: “ليس النضال هو الذي يدفعنا إلى أن نكون فنانين بل إن الفن هو الذي يفرض علينا أن نكون مناضلين”، وهو ما جسدّته سيرة وابداع ساراماغو طوال حياته.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا