يكاد يجمع غالبية المراقبين للأحداث في منطقة الشرق الأوسط على أن الأحداث المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط والتي اتخذت منحى مغايرا عما كانت عليه الأمور من رتابة قاتلة قبل السابع من اكتوبر من العام الماضي، وما صاحب طوفان الأقصى بعدها من تحولات خلطت الكثر من الأوراق، وأجلت الكثير من مشاريع العديد من دول المنطقة على اقل تقدير، وهي احداث وتحولات تنبىء بتطورات كبرى لا يستطيع المراقب العادي أن يضع لها عناوين واضحة منذ الآن، أو يتكهن بطبيعة مآلاتها على دول الشرق الأوسط في المديين المتوسط والبعيد، فهي احداث ربما تبدلت فيها أوراق اللعب وغاب عنها بعض اللاعبينالأساسيين على مستوى المنطقة، كل له أسبابه غير المفهومة احياناً، كما اجلت الكثير من المشاريع والبرامج على اختلافها ولو إلى حين انتظارا لما ستسفر عنه جلبة ما يدور من معارك واحداث.
المؤكد، وهذا واضح للعيان، أنها تسير بالمنطقة برمتها نحو المجهول في ظلّ حسابات دولية كبرى يتهيأ لها العالم، وليس لبعض أنظمة دول المنطقة من حيلة سوى الصمت أو المسايرة في آحايين عديدة، ولا يستبعد أبدا من خلال ما تؤشر عليه من معالم أن تكون منطقتنا هذه في طريقها لتغييرات جيوسياسية تتوسم الإدارة الاميركية الحالية وبكل تأكيد الإدارة الاميركية القادمة قريباً للبيت الأبيض ان تستمر على ذات المنوال، وإن بخطوات أو استراتيجيات أو تكتيكات ربما تبدو مختلفة في شكلها وخطابها العام، إلا أنها تسير في ذات السياق والأهداف التي دأبت عليها الإدارات الاميركية المتعاقبة، التي لم تتوقف لحظة عن الوفاء لنهج (الكوبوي) الذي ميز تاريخ الولايات المتحدة الحافل منذ مذابح الهنود الحمر والقائم على افتعال الحروب واشعال الفتن وسلب إرادات الأنظمة والشعوب، وبدون رادع اخلاقي أو سياسي، وضمن نهج يتسم بالعداء لكل ما هو إنساني وحضاري، خاصة وقد تهيأ للإدارات الأميركية المتعاقبة ومنذ مطلع التسعينات على وجه التحديد، أي بعد سقوط الاتحاد السوفيتي الانفراد وضمن سياسة القطب الأوحد بإدارة العالم على طريقتها ونهجها الاستعماري البغيض.
فأميركا التي تقف بقوة خلف ما يجري من احداث سياسية ومشاريع استعمارية في منطقتنا عنوانها الأوحد هو الهيمنة ولا شيء سواها، لم تعد معنيّة أبدا بأبسط القيم والمبادىء الإنسانية والحضارية التي تجهد المنظمات الدولية الخاضعة لإرادة الاميركان انفسهم، مهما تلحفت بعناوين مثل حقوق الإنسان والعدالة والشفافية ونشر قيم الديمقراطية، وغيرها من مفاهيم، إلا أنه يكفينا ان ندلل من خلال معايشتنا لحجم ونوعية وعدد الحروب والدمار ومشاريع الهيمنة فقط في منطقتنا المبتلية بالنفط والموارد، إلا ان نقول إنها استطاعت طيلة ما مضى من عقود أن تسلب وتنهب وتدمر وتسقط أنظمة وتحرق مقدرات شعوب وأمم وتبسط هيمنتها الواسعة عسكريا على مساحات واسعة من محيطنا الجيوسياسي، يزيدها صلفاً وغروراً رضوخ غالبية الأنظمة، فلم تعد دولنا مجرد أسواق لسلع استهلاكية أو مشاريع تسليح تحرك ماكينات الدمار حول العالم، بل هي بسطت قواعدها العسكرية في كل منافذ العبور البحري والبري والجوي في المنطقة، مختلقة أعداء جدداً ومشاريع استعمارية مستقبلية قريبة وبعيدة للاستثمار فيها من أجل الإبقاء على هيمنتها دون منازع على مقدرات عالمنا.
لذلك تبقى الإدارات الاميركية مهما بدّلت جلدها، ملتزمة على الدوام بوفاءها للحفاظ مهما كلف ذلك من ثمن ينهجها الاستعماري المتمثل في توسيع مناطق نفوذها واستلابها العالمي متكئة على قوة عسكرية متضخمة وآساطيل متمركزة ضمن مواقع استراتيجية عالمية، تتكيء على كل ذلك وأكثر في منطقتنا، المبتلاة بحروب أميركية لا تريد أن تتوقف يساعدها في ذلك أداتها المتمثلة في كيان لقيط انشىء على أجساد ودماء وأشلاء وحقوق ومصالح شعب اعزل في فلسطين الحبيبة، جرد من جميع حقوقه تحت سمع وبصر ما أصبح يسمى عنوة بالعالم الحر! منذ أكثر من خمسة وسبعين عاما، فيما تعيث جيوش الولايات المتحدة واعوانها من دول الناتو خراباً وحروباً لا تتوقف في محيطنا الجغرافي، رغما عن إرادة كل شعوب الأرض.
وليس ببعيد عنا ما يرتكب من مجازر ودمار غير مسبوق على أرض غزّة وفي لبنان الجريح، تلك الأوطان الطاهرة المفعمة بالحياة والأمل، دنسها الغزاة الصهاينة دون أن يرف لهم جفن على مدى عقود، موظفين كل ما استطاعوا من همجية وحقد وكراهية امتزجت فيها شهوات الانتقام مع ما يحمله تراثهم الصهيوني المغلوط والمستند على خرافات، من يقين اعمى بأنهم شعب الله المختار.. وأي شعب؟!
وفي المحصلة وعلى خلفية كل ما تقدم يمكننا القول إن المسألة تتجاوز كثيراً ما جرى من حرب مجرمة وغير متكافئة على أراضي غزة والضفة الغربية وفي لبنان، فهاهم قادة الصهاينة يعلنونها صراحة وبغرور أعمى أنهم أصبحوا بعد ما يزيد على العام منذ انبلاج طوفان الأقصى، أنهم اصبحوا في طريقهم للهيمنة التامة على المنطقة، يساعدهم في ذلك ما نجحوا فيه من تحالفات واهمة ربما بعضها قائم بالفعل وبعضها الآخر ينتظر ساعة الصفر. هذا ما يتبجح به رئيس وزراء الكيان المحتل اكثر من مرة ومن على منبر الأمم المتحدة ذاته مستعرضا خرائط مشروعه الصهيوني للهيمنة على المنطقة، غير آبه باصطفاف اكثر من 153 دولة عضو في المنظمة الدولية مع الحق الفلسطيني والداعية لوقف نزيف الدم في فلسطين ولبنان.
في المحصلة، نحن كشعوب وأنظمة عربية وإسلامية، علينا أن نتحمل مسؤلياتنا الأخلاقية والإنسانية والتاريخية والحضارية التي ستساءلنا عنها الأجيال القادمة، إن نحن استمرأنا في الاستسلام لمشاريع هيمنة الامبيريالية الاميركية وحلفاءها، التي تعيش سنوات سقوطها الذي سيكون مدوياً، وبعد ان افتضح حجم النفاق والكذب والعنصرية لدى تلك الأنظمة التي سوقت نفسها كثيرا كحامية لحقوق الإنسان وتعزيز الديمقراطية ونشر العدالة المزعومة حول العالم، يصبح ذلك ممكنا فقط إذا ما امتلكنا كشعوب وأنظمة ومعنا حلفاءنا حول العالم في آسيا واميركا اللاتينية وأفريقيا وبقية شعوب العالم المضطهدة، الإرادة والقدرة الكافية للوقوف بوجه ما يراد للمنطقة والعالم من دمار وهيمنة، حتما لن يتوقف عند حدود فلسطين او لبنان كما يعتقد المرجفون، بغباء، في محيطنا الذين بات عليهم فقط أن يتعلموا شيئا مما يحكيه التاريخ ويسطره شباب وشيوخ ونساء وأطفال لبنان وغزة وكل فلسطين المحاصرين والمبادين بآلة الحرب الاميركية الغربية وأداتها الصهيونية المجربة، فلنتعلم من صبرهم وارادتهم وجلدهم وصمودهم وجوعهم وهم يقاومون المحتل بصدور عارية، ،إلا من إيمانهم بعدالة قضيتهم وحقهم المشروع في الحياة ضمن دولة عادلة ذات سيادة.