في تمجيد الحياة

0
35

وحدها الإنسانية المعذبة بين جبروت الشرور وأنين المرؤءة، بين صراخ الكبير وبكاء الصغير، بين شوفينية الحاكم وسادية الطاغية وبين ثورة المعدم واستكانة المحكوم. وحدها الإنسانية هي الدمعة الرقراقة من عين الرحمة على منظر بؤس أو مشهد شقاء، وحدها من ترفض أن تكون الفضيلة كدائس تحشر في الأذهان بدلاً من ملكات تصدر عنها اهتزازاً للحياة.

 وحدها الإنسانية هي التي تقر بأن الإحساس بـ الآخر هو التعويض العادل عن كل بشاعات العالم، وبأنها المنفردة بـ العدالة حين تنفصم العروات وتدب العداوات وينخر الحقد الأرواح.

تستقرأني كل يوم قناعة أقرب لليقين، إن هذا العالم احتضر مرات عديدة على مدار التاريخ، ولم يسعفه من الهلاك إلا جهود أرواح بيضاء، أرواح قد يختلف جنسها، عرقها ولونها ودينها، وتجتمع على مكنون ناصع ومضيء. تبذل شهيقها وزفيرها في مواقف الفناء، دون صخب أو ضجيج ورياء. حضورها يكاد ينعدم من هالات تكلف الظهور، لكن خطاها سديدة في حيوات لا يشملها العد، حد إن محاولة نزعها تستحيل؛ لأنها أشبه بشجرة جذورها عميقة في كل تجليات الوجود.

محمد أحمد توفيق، استشاري شبكية مصري، لم يفكر أو يخطط أبداً للسفر إلى غزة. لكن خلال إرسال أجهزة دقيقة خاصة بجراحة العين، تأكد للقوافل أنها ستتحطم خلال رحلة المعبر، ما لم يرافقها طبيب مختص يحرص على نقلها وسلامتها.

بادر محمد توفيق بالتطوع من دون تفكير لثوانٍ، ووصل القطاع في أبريل الماضي في رحلة امتدت لنحو 21 يوماً.

يقول محمد إنه بحلول اليوم الثالث عشر، كان على يتحلق حول حواف الانهيار النفسي، رغم إنه يحيا في ظروف سماها “باريس غزة”. توفر له الماء والدقيق والكهرباء، لكن ما اعتنى بروحه للمفارقة كان اهتمام الأطباء الفلسطينيين، بعضهم يسكن على بعد ساعتين مسير من المستشفى الأوروبي ويتحرك للعمل من الفجر. وعند الثامنة صباحاً يتأهبون للعمل بكل تفاني؛ وجواره طاقم تمريض غير مُتخصص في العيون لكنه خلال ساعات كثيفة تعلم منه ما يجب فعله.

برأي محمد فإن لكل طفل غزاوي خبرة سمعية بأصوات القنابل، نوع طائرات العدو والمقاومة. لكن الفخ الشائك هو المتفجرات الكابوسية الأشبه بمعلبات الطعام، والتي سببت عدد هائل من الإصابات. تخيل أن يتلهف طفل جائع لفتح علبة طعام فتنفجر في وجهه وتهشم رأسه وتبتر أطرافه.

يبدي محمد اندهاشه بالكيفية التي مكنته -في ظروف بدائية و بدون أي قاعدة للتحكم في العدوى- في تخصص دقيق مثل العين. كيف تمكن من إجراء حوالي 125 عملية ناجحة خلال مدة إقامته وغادر محفوفاً بعناق الفلسطينيين ودعواتهم واشتياقهم لأم الدنيا.

في لقاء على اليوتيوب، يؤكد محمد إنه لو منحه القدر فرصة واحدة للعودة للقطاع لن يتردد. وتداول نشطاء التواصل الاجتماعي صورة له وهو يرتاح بعد عناء تأدية 33 حالة مياه بيضاء خلال يوم واحد، 13 ساعة عمل متواصلة بلا رفة جفن.

يخلو حديث محمد في اللقاء، من المفارقات بين الأمل واليأس، إذ تلح أنفاسه على أن جدوى القلب هي التماهي في نبضه؛ وأن النبض هو الفعل كسبيل  لفعالية المقاومة.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا