بعد مضي أكثر من عام على العدوان الإسرائيلي على غزّة، الذي لا مثيل له في وحشيّته، قد يصحّ القول إنّه بات عصيّاً أكثر من أيّ وقتٍ مضى بلوغ تسوية شاملة للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، على قاعدة حلّ الدولتَين، بما يضمن للفلسطينيين حقّهم في إقامة دولة وطنية مستقلة في أرضهم. حتى لو سلّمنا بصحّة الانطباع (وهو صحيح في كلّ حال)، الذي نشأ غداة 7 أكتوبر (2023)، أنّ ما جرى فيه من توغّل مقاتلي حركة حماس، في ما يعرف بـ”غلاف غزّة”، قد أعاد إلى الواجهة القضية الفلسطينية، التي كادت أن تُنسى، فإنّ ما نحنُ شهود عليه اليوم يفيد بأنّ الحلّ المنشود لم يصبح أقربَ ممّا كان عليه وقتها، هذا إن لم يكن قد بات أبعد، والأرجح أنّه كذلك فعلاً، ولذلك أسبابه، مع إدراكنا أهمّية المقاومة الباسلة التي أظهرها الفلسطينيون في غزّة والضفة الغربية، وحجم التضحيات المهول الذي قدّموه ولا يزالون. ورغم المخطّط الشرير للتهجير، الذي ازدادت وتيرته في الفترة الماضية في شمال قطاع غزّة بغية إفراغه من سكّانه كليّةً، وليس بعيداً أن تكون الغاية إعادة الاستيطان الصهيوني إليه.
“الانفجار” الذي حدث في 7 أكتوبر كان متوقّعاً وغير مفاجئ لمن له بصيرة من المراقبين، ونعني أنّ مثل هذا السيناريو كان لا مناص منه، سواء في الضفة الغربية أو في غزّة، بسبب المأزق الذي آلت إليه القضية الفلسطينية، لأسباب عدة، بينها سياسات الحكومة اليمينية المُتطرّفة في إسرائيل بزعامة بنيامين نتنياهو، مدعوماً بمزاج شعبي مُتطرّف غير مسبوق، وبالعون الأميركي الذي لا حدود له، عسكرياً وسياسياً، بصرف النظر عمّن يكون مقيماً في البيت الأبيض، جمهورياً كان أم ديمقراطياً، وهذا ما رأيناه جليّاً، على سبيل المثال فقط، في سياستَي آخر إدارتين أميركيتين، إدارتي ترامب الجمهورية وبايدن الديمقراطية، رغم التصريحات الفارغة التي يطلقها الأخير وكبار أفراد إدارته، وأخيراً بسبب الاختلال الكبير في ميزان القوى عربيّاً لصالح المعتدي، خاصّة بعدما أسفرت جهود إدارة ترامب السابقة عن إبرام اتفاقيات تطبيع بين عدد من الدول العربية وإسرائيل، ما زاد من غطرسة العدو وتهوّره. وحتى لو لم يجرِ ما جرى في السابع من أكتوبر، فإنّ سيناريو مشابهاً له، وإن اختلفت التفاصيل، كان سيجري عاجلاً أو آجلاً لكسر حالة الجمود التي أصبحت فيها القضية الفلسطينية.
الرّدُ الإسرائيلي الوحشي على ما جرى، والذي لم يُبقِ خطّاً أحمرَ قانونياً وإنسانياً لم يتجاوزه، كان هو الآخر متوقّعاً. حلّ الدولتَين غائب كليّة عن أجندة الطغمة الحاكمة في إسرائيل، وبات الهدف بالنسبة لها الاستمرار في استيطان الضفة الغربية، لتحقيق غايتَين متداخلتَين؛ قبر فكرة الدولة الفلسطينية التي يجب أن تكون الضفة الغربية قاعدتها الأساسيّة، إضافة إلى قطاع غزّة، والتمهيد لضمّ الضفة إلى إسرائيل أمراً واقعاً، تماماً كما ضمّت هضبة الجولان السورية المحتلّة، بخلاف القرارات والقواعد الدولية كلّها، وفي مسعاها لضمّ الضفة تستفيد إسرائيل من حالة الوهن والضعف والفساد، التي نجد فيها السلطة الفلسطينية، صنيعة اتفاق أوسلو، لا حول لها ولا قوّة في التصدّي لما تراه أعينها من استشراء نفوذ المستوطنين الصهاينة ووحشيتهم ضدّ أهالي بلدات الضفة وقراها.
الإقرار بأنّ الحلّ بات عصيّاً أكثر ممّا كان عليه في السابق، لن يعني، في كلّ الأحوال، أن عزيمة الشعب الفلسطيني ستضعف أو تنهار، رغم الخسائر والتضحيات كلّها، وسيستمر النضال الفلسطيني كما استمرّ بعد كلّ نكبة أو هزيمة أو تهجير. وآجلاً أم عاجلاً فإن هذا النضال سيعطي ثماره في انتزاع الفلسطينيين حقوقهم، مهما أظهر المجتمع الدولي من تجاهل لها، وكما فرض شعب جنوب أفريقيا إرادته بقيادة المؤتمر الوطني الأفريقي، الذي كانت الدول الغربية قد صنّفته تنظيماً إرهابياً كما تفعل حالياً مع التنظيمات الفلسطينية، التي تتصدى للمعتدي، فإنّ الشعب الفلسطيني سيضع المجتمع الدولي، راضياً أم مكرهاً، أمام حقيقة أنّه لا يمكن لشعبٍ بلغ عدده 14.8 مليون نسمة (حتى منتصف عام 2024 بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني)، وفي ازدياد، أن يبقى الشعب الوحيد في العالم المحروم من الحقوق البديهية للشعوب كلّها، في رأسها تقرير المصير وإقامة دولته على أرضه المحتلّة والمغتصبة من عصابات مُسلّحة دخيلة عليها.