كتبتُ قبل أربع سنوات، عند إعلان هزيمة دونالد ترامب أمام الرئيس المنتهية ولايته اليوم، جو بايدن، ما مفاده بأنّ تلك الهزيمة لا تعني أنّ الترامبية إلى زوال، “فترامب عنوان لمرحلة مأزومة في أميركا، وليس هو من صنع الأزمة، وإنما الأزمة جاءت برجل مثله رئيساً”. وحتى في تلك الانتخابات التي خسرها ترامب، لم تكن هزيمته، التي كابر طويلاً في الاعتراف بها، مُدويّةً. لذا، عمل الديمقراطيون خلال السنوات الأربع المنقضية على تدبير المكائد ضدّ خصمهم اللدود بغية إدانته قضائياً، بطريقة تحول دون عودته إلى البيت الأبيض، وهو ما كان قد عقد العزم عليه بإصرار، وها هو يكسب الرهان.
على خلاف ما اشتهى قادة الحزب الديمقراطي، كلّ قضية نظر فيها القضاء ضدّ ترامب، بما فيها التي دين فيها، لم تُفقده شيئاً من شعبيته المتنامية، خصوصاً لدى القاعدة الشعبية البيضاء والأقلّ تعليماً، بل إنّها زادت من هذه الشعبية، لأنّ ترامب برع في توظيف تلك المكائد لصالحه، بإظهار نفسه في صورة الضحية. ومن حيث لم يتوقّع الديمقراطيون، جاءت المحاولة الغامضة لاغتيال ترامب قبل شهور لتزيد في شعبيّته، ولتجعل طريقه نحو البيت الأبيض سالكاً أكثر ممّا كان.
عامل آخر كان له أثر كبير في فوز ترامب أخيراً، غياب المنافس الديمقراطي القادر على مناوأته انتخابياً، فلا الرئيس بايدن كان قادراً على أن يكون كذلك، بسبب ما أظهره تقدّم العمر عليه من ضعفٍ في الأداء وتشتّت في الذهن، ولا نائبته كامالا هاريس التي تنازل لها بايدن، متأخّراً، لتصبح مرشّحة الديمقراطيين في الانتخابات. فمن جهة، لم تنل هاريس الفترة الكافية لتنظيم حملة انتخابية ناجحة إزاء حملة ترامب، رغم أنها نالت دعماً مالياً كبيراً بعيْد اعتمادها مرشّحة ديمقراطية للرئاسة. ومن جهة أخرى، لا تملك هاريس الكاريزما القادرة على مواجهة حضور ترامب الشعبي الواسع، ولا الكفاءة السياسية التي تُمكّنها من تقديم خطاب انتخابي مقنع.
يلفتنا تقرير في موقع بي بي سي إلى ما قالته هاريس، قبل أقلّ من شهر، في مقابلة تلفزيونية كان يعوّل عليها في تحسين فرصها في الفوز، حين سُئلت عما ستفعله مختلفاً عن الرئيس جو بايدن، فأجابت: “لا شيء يتبادر إلى ذهني حالياً”. ولا يُعبّر هذا القول عن سوء اختيار للإجابة فقط، بل عن الحقيقة، فهي بالفعل لا تملك شيئاً مختلفاً عن رئيسها، الذي بدا عاجزاً عن ممارسة أي ضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لوقف المجازر البشعة في غزّة، وبارك العدوان على لبنان، وزوّد إسرائيل بكل ما تحتاجه من عدّة وعتاد، بما فيها أشدّ الأسلحة فتكاً. وقد انتقد السيناتور الديمقراطي بيرني ساندرز حملة الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية، قائلاً إنّ “الشعب الأميركي غاضب ويريد التغيير، وهو على حقّ في ذلك”، وفق تعبيره.
بعيداً عن الحدث الانتخابي، علينا أن ننظر إلى مجيء ترامب للمرّة الأولى، من خارج السياسة، من عالم المال والأعمال ليصبح رئيساً لأميركا، وعودته الكاسحة مرّة أخرى، في سياق أشمل، إذ جعل ترامب من “الأمركة” من خلال شعاره “أميركا أولاً”، بديلاً للعولمة، التي طالما قدّمتها أميركا للعالم بوصفها نظاماً عالمياً تتزعمه هي، فظهرت أقطاب دولية وازنة أعادت صوغ هذا المفهوم، بل لعلّ أميركا أدركت (ولو متاخّرة) أن العولمة بدل أن تكون أداةَ هيمنةٍ أميركية على العالم، أصبحت وسيلةً لظهور منافسين اقتصاديين أشدّاء، في مقدّمتهم الصين. ومن هنا، أصبحت العودة إلى “أميركا أولاً” شعاراً جاذباً، شعبياً، في أوساط الناخبين الأميركيين، الذين راقهم ما يُكرّره ترامب عن مدى جدوى ما تنفقه أميركا من أموال من دون مقابل، على حلفائها في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، أو ما تقدّمه من عونٍ مالي وعسكري مبالغ فيه إلى أوكرانيا في حرب ضدّ روسيا، واضح منذ البداية أنّها خاسرة.
تتعيّن قراءة فوز ترامب الساحق في إطار صعود الموجة الشعبوية التي تجتاح الغرب، تعبيراً عن أزمة عميقة في العالم الرأسمالي، انتهت إليها العولمة بالمفهوم الغربي، والسياسات النيوليبرالية التي قُدّمت وصفةً، حتى للبلدان النامية، وجرّت ما جرّت من ويلات، ورؤية هذا الصعود لا بوصفه حلّاً للأزمة، فترامب نسخة رأسمالية أخرى، وإنما بكونه تعبيراً عن المأزق الذي انتهت إليه هذه السياسات.