واضح أنّ دولاً عربية مختلفة مبتهجة بعودة دونالد ترامب رئيساً لأميركا، فهي ترى تعامله معها مختلفاً في أوجهٍ عديدة عن تعامل الإدارة الديمقراطية السابقة، وقبلها إدارة الديمقراطي الآخر باراك أوباما، الذي صادف وجوده في البيت الأبيض اندلاع أحداث ما عُرف بالربيع العربي في عدّة بلدان عربية في المشرق والمغرب: تونس، مصر، ليبيا، اليمن وغيرها، ولم يكن خافياً أنّ واشنطن أوباما، يومها، كانت تحمل قدراً من التعاطف مع الاحتجاجات التي جرت، ومارست ضغوطاً على حلفائها العرب لتقديم تنازلات، بعضها كان موجعاً لهم. ورغم أنّ الظروف تغيّرت فترة إقامة جو بايدن في البيت الأبيض، إلا أن علاقته مع الدول العربية الحليفة ظلّت تحمل أوجهاً من الالتباس.
على خلاف بايدن، وقبله أوباما، تبدو العلاقة مع ترامب، سواء في ولايته الأولى التي انتهت قبل أربع سنوات، أو في ولايته التي ستبدأ بعد أسابيع قليلة، مريحة أكثر بالنسبة لأنظمة عربية كثيرة، ففيما تتسم سياسة الديمقراطيين بأوجه من الغموض، ناجمة، على الأقل في أحد أوجهها، عن التناقض البيّن بين ما يقولون وما يفعلون، فإنّ تصريحات ترامب تتّسق مع سياساته المعلنة، بما فيها المنحازة كليّة، وبدون أي مواربة، مع إسرائيل وسياساتها العدوانية والتوسّعية في فلسطين وسواها من البلدان العربية المحيطة بها.
أكثر ما يُبهج أنظمة عربية مختلفة أنّ ترامب واضح وصريح في أن لا رغبة لديه في التدخّل في السياسات الداخلية لهذه الأنظمة، فلن يمارس عليها أي وجه من الضغوط، لتقدم على توسيع مساحة المشاركة السياسية وحرية التعبير في بلدانها، وإيلاء حقوق الإنسان عناية أكبر، فهذا ملفٌّ لا يعنيه وغير داخل في أجندة سياسته الخارجية القائمة على أسس براغماتية صريحة ومعلنة، فالمهمّ بالنسبة له هي المصالح لا المبادئ، من دون أن يعني هذا أن الديمقراطيين كانوا أكثر اهتماماً بهذا الملف، فالأرجح أنهم كانوا يستخدمونه وسيلة ضغط من أجل نيل مصالح أكبر، وأظهروا (الديمقراطيون) أنّهم في كامل الاستعداد لصرف النظر عن دعاواهم في احترام حقوق الإنسان حين يتصل الأمر بتلك المصالح، ولنا أن نتذكّر تصريحات بايدن في حملته الانتخابية عن أنظمة عربية معينة، وسياسته إزاءها بعد أن أصبح رئيساً، لنرى في ذلك خير دليل على هذا.
كتب الصحافي غيفورغ ميرزايان في صحيفة فزغلياد الروسية إنّ عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض تُبشّر “بتغييرات كبيرة في السياسة الخارجية الأميركية”، مشيراً إلى سمتين، على الأقل، من سمات السياسة الخارجية الترامبية المنتظرة يتوقف عندهما الخبراء: تصدير الديمقراطية الليبرالية، ونبذ دبلوماسية “من ليس معنا فهو ضدّنا”.
ستكون للسمتين تجلياتهما في سياسة ترامب تجاه العالم العربي. وإذا كانت السطور أعلاه قد جاءت على ما يندرج تحت السمة الأولى، من ترك الحكومات العربية تفعل ما تشاء في علاقتها مع الشأن السياسي الداخلي، فإنّ السمة الثانية تشكل تعاطياً واقعياً مع المستجدّات التي ظهرت في السنوات القليلة الماضية في السياسة الخارجية لبعض الدول العربية التي تُعدّ الولايات المتحدة حليفها الأول والأساس، والتي جاء بعضها ردّة فعلٍ على ما مورس على أنظمة هذه الدول من ضغوط أميركية، حيث نحت نحو توطيد تعاونها مع الصين وروسيا، وكفّت عن أن تُبقي البيض كاملاً في السلّة الأميركية كما دأبت عقوداً، كما مدّت جسور التفاهم مع إيران، متجاهلة الضغوط الأميركية والغربية، وهي سياسة تنمّ عن حكمة، استخلصت من تجربة العلاقة مع الدول الغربية، وفي مقدّمتها أميركا، المعنية بمصالحها هي لا بمصالح الحلفاء.
هذا التوجه “الترامبي” المنتظر، حسب مقال الصحيفة الروسية المشار إليه، لا يخصّ العلاقة الأميركية مع البلدان العربية وحدها. ويعطي كاتب المقال أمثلة على ذلك، فبالإضافة إلى تعزيز السعودية علاقتها بالصين، فإنّ دولة مهمة مثل تركيا، ورغم بقائها في حلف الناتو، واصلت التعاون مع روسيا؛ وهناك أيضاً مثال الهند التي حاولت الولايات المتحدة، من دون جدوى، إجبارها على التوقف عن التعاون مع إيران وروسيا؛ وكذلك مثال المجر التي رفض رئيس وزرائها فيكتور أوربان اتباع السياسة الأوروبية المتمثلة في عزل روسيا. وفيما يتعلق بجورجيا، رفضت القيادة هناك بشكل واضح أن تكون “أوكرانيا” أخرى، والمشاركة في العقوبات ضد روسيا، وحتى قبول القيم الغربية لمجتمع المثليين.