منذ القرن الرابع عشر، كتب الإيطالي “جيوفاني بوكاشيو” حزمة كبيرة من القصص القصيرة وجمعها في كتاب بعنوان (ديكاميرون). حوى الكتاب زخماً متنوعاً من الحكايا والتشويق ووفر رصيداً هائلاً من الفكر والخُلق والوجدان يشبه إلى حدٍ ما قصص كليلة ودمنة، وبفضل الترجمة التي عنت بروائع الأدب العالمي انتشرت قصص جيوفاني وأصبحت كأنها ألف ليلة وليلة الإيطالية!
ولأنني أحب القصص القصيرة، استحوذ الكتاب على شيءٍ من اهتمامي وشغفي، فهذا النوع من القصص يكتبه الكاتب بعمقٍ مفرط، وإما أن يكون خالداً أو عابراً، قد يطغى جمال الأسلوب على ضعف الفكرة أو قد تغلب جاذبية الفكرة هشاشة الأسلوب.
بالقرب من ديكاميرون رسخت قصة في جمجمتي تحت عنوان (جبرائيل)، تحكي القصة حكاية رجل مزدري الخُلق وممتلئ بالخُبث، حتى أنه لفرط نفاقه صار منبوذاً من الجميع، ونتيجةً لذلك قرر أن يهاجر إلى فينسيا وينسج حيلة جديدة في النصب حيث يسعفه هناك جهل الناس به.
انضم إلى إحدى الكنائس وتحوَّلَ بإغواء سحره إلى “الأب ألبرتو”، القسيس الذي يسكب دفء كلامه ورقة ألفاظه ونصحه على الناس ويؤمر بالفضائل وينهى عن الرذائل بصرامة شديدة.
كان القناع الذي أخذه هذا الرجل قد أقنع الكثيرين، فصاروا يتهافتون عليه ويقروّن له بذنوبهم واعترافاتهم. وفي ذات مساء، ذهبت بعض زوجات كبار الشخصيات للاعتراف أمامه. جاء دور سيدة جميلة، اسمها “ليزتا”، فقالت بإصرار فاتن: لا أعترف إلا بهنات صغيرة يرفض الملائكة تقييدها في حساب السيئات. تفحصَ ألبرتو ملامحها وقلبه يخفق وقال ـمدّعياً الرصانةـ: أليس لديكِ عشيق؟ غضبت ليزتا وقالت: لا! ألا تملك عينان.. هل ثمة رجلٍ على هذه الأرض يستحق أن يكون عشيقاً لهذا الجمال؟ وتابعت بثقة: جمالي لا يستحقه إلا الملائكة. ذهل ألبرتو لحماقة غرور ليزتا ولكنه أيضاً هام بحسنها، فذهب إليها بعد أيام قليلة وجثى على ركبتيه وقال بصوتٍ مبحوح والدموع تنسكب على وجنتيه: أتوسلكِ سيدتي، سامحيني. سألت ليزتا باستغراب عن سبب ذلك، فقال: لقد تجرأت وأهنت جمالكِ الملائكي! الأمر الذي حمَّلَني عقاباً مبرحاً في ذاتِ الليلة، وأتى غرفتي نوراً متوهجاً خرج منه شابٌ وسيم انهال علي ضرباً بعصا غليظة وعندما سألته عن سبب هذا العقاب المُفاجئ، أخبرني بأني أهنت جمالكِ عندما توقعت أنه قد يكون من نصيبِ أحدٍ ما من هذه الأرض، وصرَّحَ بحبه الشديد لكِ بعد الله، فسألته بارتعاب: من أنتَ يا سيدي؟ فأخبرني بأنه الملاكـ جبرائيل! تنهدت ليزتا تنهيدة ارتياحٍ مسموعة: ياااااااه، جبرائيل! إني أحبّه كثيراً وأوقد له الشموع كلما ذهبت للكنيسة. وقالت بغنجٍ مغرور: ألم أقل لك أن جمالي للملائكة!؟ فأجاب “نعم سيدتي، اغفري لي خطيئتي، وسأبوح لكِ بسرٍ أودعني إياه جبرائيل.
-قل.. غفرت لك!
-إنه يشتاق لكِ كثيراً، ويتمنى لقياكِ في كل ليلة..
قالت بسرعة: دعه يأتي وقت يشاء.
قال بدهاء ثعلب: إنكِ محظوظة يا سيدتي! بل محظوظة كثيراً، ولكن حضرته لا يستطيع أن يجتمع بكِ لأنه خُلِقَ من نور في حين أنكـِ خُلِقْتِ من طين! ولذلك فهو مضطرٌ لئن يستوطن جسد آدمي حتى يلقاكِ ويمنحكِ اختيار أي جسدٍ تحبين.
قالت ليزتا: ليس مهم، المهم أنه يحبني.. أمم أترك لك الخيار.
قال في توسل: أرجوكِ سيدتي أن تقبلي أن يحل في جسدي.. لأن ذلك سيوهب ليلي ساعاتٍ هانئة في الجنة وراحة غامرة.. أرجوك.
وافقت ليزتا وغمرتها نشوة نصرٍ وزهو، وطلب منها ألبرتو ألا توصد بابها، بينما ذهب لأحد أصدقائه وأوصاه بإعداد ثوب ملاك أبيض اللون وعلى جانبيه جناحين من الريش! وذهب إليها وقضى معها ليالٍ طويلة أرضت رغبته.
ذهب لها بهيئة القسيس في أحد الصباحات يشكرها لأن السيد جبرائيل حل في جسده فتمتع في الجنة.
احتوى الغرور رأس الفاتنة الحمقاء، وذهبت تمارس تشاوفاً أنثوياً وتتباهى. حيث قالت لإحدى صديقاتها أن جمالها من نصيب رجلٍ ملائكي ولا جمالاً يقارن بجمالها. فقالت صاحبتها بفضول: من هو؟ قالت لها ليزتا بملء حنجرتها: جبرائيل. كتمت صاحبتها ضحكة ساخرة وقالت لباقي الصديقات حتى أُشيع الخبر ووصل لرجال عائلة ليزتا، فتربصوا للرجل الغامض بجانب فراشها وعرف الجميع حيلة ألبرتو والملاك جبرائيل، وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة.
كُتِبَت هذه القصة منذ فترة متوغلة في القدم، حاولت اختصارها ونقلها عبر سردي المتواضع، لا زلنا نكتشف الكثيرين ممن يلبسون أقنعة وينسجون الحيل لمآرب دنيئة وتحت ستار أخلاقي وديني ولا نعتبر.