ليس من الممكن أن تترسخ ثقافة التسامح، في ظل الإقصاء والتهميش الاجتماعي، فالمجتمعات المليئة بالشكوك والكراهية، مجتمعات لا تشجع على الحوار الوطني والتوافق!
لم تكن أعمال العنف، وإثارة الفتن الطائفية والمذهبية، والتعصب، ومصادرة الحقوق والحريات، ورفض فصل الدين عن السياسة سوى تحديات كبيرة أمام التسامح. ومن هنا، فإذا كان مفهوم التسامح لدى البعض، أتخذ كشعارٍ لإطفاء بؤر التوتر والفتن والأحقاد، فإن حل الخلافات والنزاعات على أساس احترام الآخر، واعتماد حقوق المواطنة للجميع، ونبذ التسلط والعنف والإرهاب، وضمان الحريات، قاطرة تؤدي أن يكون التسامح ركيزة حضارية للمجتمع الديمقراطي.
وإذا كان مفهوم التسامح – في نظر الكنيسة – استطاع تجاوز حدود الدين واقترن بحرية التفكير وبدأ ينطوي تدريجياً على منظومة من المضامين الاجتماعية والثقافية الجديدة، فإن المفهوم المعاصر للتسامح يقوم على مبادئ حقوق الإنسان العالمية، ومن هنا لقد ربطت وثيقة إعلان المبادئ العالمي الصادر في نوفمبر 1995 بين التسامح وحقوق الإنسان والديمقراطية والسلم؛ وبالتالي ارتقت بالتسامح إلى صورة قيمة قانونية تتطلب الحماية من قبل المجتمع الدولي.
ترى الفدرالية السورية لهيئات حقوق الإنسان في دراسة لها عن مفهوم التسامح، في مواجهة كل أشكال التعصب والتطرف والانغلاق، إنه كلما غابت ثقافة الإقرار بالتعدد والاختلاف والتكافؤ داخل المجتمع، كلما اتسع المجال أمام ظاهرة عدم التسامح.
ومن أبرز ما خلصت إليه الدراسة، أن سلوك الأفراد والجماعات مازال متأثراً إلى حدٍ بعيد بثقافة التسلط والهيمنة، وادّعاء امتلاك الحقيقة، لأن التربية العائلية مازالت تقوم في الغالب على سلطة الأب ووجوب الطاعة، وعدم المشاركة من طرف باقي أفراد الأسرة فيما يقرره، كما أن التربية في المدرسة مازالت تقوم على التلقين، وتصور المعلم بأنه لا ينطق إلا بالحقيقة التي لا تحتاج نقاش، ولا تقبل رأياً مخالفاً، والنشاط الديني لبعض الجماعات يقوم على التشدد والغلو والتطرف وتكفير من لا يشاطرونهم نفس الأفكار المتطرفة، والابتعاد عن المجادلة بالتي هي أحسن، والتنكر للاجتهادات، وكذلك بالنسبة للطقوس التقليدية للعمل، بالإدارات ومؤسسات الشغل مازالت – رغم وجود قوانين حديثة – تضع المسؤول أو رب العمل في موقع ( المعلم) والموظفين والعمال في موقع (المتعلمين) الذين ما عليهم إلا تنفيذ التعليمات والأوامر، والويل والثبور لمن يحاول إبداء أفكار تتناقض أو تعارض أو تنتقد ما يراه أو يقوله المسؤول، أو يحاول تنبيه إلى خطئه، أو تجاوز لصلاحياته، وكذلك فإن السلوك السياسي كثيراً ما يقوم على إقصاء المعارضة أو تحجيمها، وتغيب الممارسة الديمقراطية السليمة، فكل هذه العوامل والمؤشرات تهيئ التربة الخصبة لنمو ظواهر التعصب والتشدد وعدم التسامح!
إن ما يطبع علاقات الدول من عدم التكافؤ، وترجيح مصالح التكتلات الدولية الكبرى، ونزعة الهيمنة واستعمال القوة، ينعكس بكيفية سلبية على دول العالم الثالث، وخاصة تلك التي لاتزال تائهة في البحث عن طريق النمو، أو لا تحسن استعمال مواردها، أو تفتقر لمقومات النهوض الذاتي، مما يجعلها عرضة للهيمنة والاستغلال من طرف الدول العظمى، ليس بحكم ما لهذه الأخيرة من قوة اقتصادية فحسب، وإنما كذلك بسبب نفوذها السياسي داخل المحافل الدولية، فتأتي ممارساتها في كثير من الأحيان مناقضة لقيم التسامح، ومبادئ حقوق الإنسان التي يتحدث عنها المنتظم الدولي وهيئاته المختصة، وتنعقد بشأنها العديد من المؤتمرات، وتدرج قواعدها ضمن صكوك ومواثيق دولية تبقى سجينة الإطار النظري، أو تستعمل سلاحاً من طرف الدول العظمى، والمؤسسات الدولية الخاضعة لهيمنتها، في مواجهة بعض الأنظمة السياسية في دول العالم الثالث، بقصد ابتزازها، أو عزلها داخل المجتمع الدولي!
و من أغرب المفارقات التي تميز عصرنا الحاضر، أن بعض الدول التي تعتبر نفسها “قدوة” في الديمقراطية وحقوق الإنسان تسهم بطريقة مباشرة أحياناً وغير مباشرة أحياناً أخرى، في إذكاء ظاهرة عدم التسامح في البلدان المختلفة، قصد إخضاعها لهيمنتها الاقتصادية والسياسية، كما تساهم في إعاقة تنميتها، وذلك بالحرص على إرساء نظام اقتصادي عالمي يكرس الاختلالات القائمة، ويعمق أكثر الهوة الموجودة بين الشمال والجنوب، وينهك جهود الدول السائرة في طريق النمو، في عملية تسديد الديون وفوائدها، مما يجعلها تواجه صعوبات اقتصادية واجتماعية كثيرة تهدد استقرارها، وتزرع بداخلها بذور الاضطراب والعنف.
وليس غريباً أن تكون الأسلحة الفتاكة التي تحصد الأرواح البشرية، وتدمر العمران، وتهدد الموارد في بلدان العالم الثالث على الخصوص، من صنع الدول المنادية بالسلم والتسامح وحقوق الإنسان.
وحينما تصل العقوبات السياسية والاقتصادية المفروضة على بعض الدول باسم منظمة الأمم المتحدة، تحت ضغوط الدول العظمى، إلى درجة إهدار أرواح عشرات الآلاف من الأبرياء، من أطفال وشيوخ ونساء، بسبب الحصار المؤدي إلى التجويع والتشريد والموت، في هذه الحالة لا نكون أمام صورة من الصور البشعة لعدم التسامح فقط، أو أمام تخلي المنتظم الدولي عن المبادئ التي تأسس من أجلها، وأنما نكون أمام وضع تنعدم فيه أي قيمة من قيم الإنسانية!
About the author
كاتب بحريني وعضو التقدمي