(طه حسين وإدوارد سعيد مثالاً)
الثقافةُ تفاعلٌ فكريٌ مع المجتمع أشبه بالتفاعلات الكيمائية، إما أن يكونَ التفاعلُ هادئاً تتداخل فيه المكونات الأساسية مع العناصر المضافة بانسجام أو يكونَ حاداً تتداخل فيه المواد بصعوبةٍ وهستيريا أو قد تتنافر وتتشظّى. والغالب أن مسار الفكر الناقد يحتمل الوجهين، وليس الكلام -بطبيعة الحال-عن السلبي ولإيجابي إنما عن التمازج والربط والتأثير. نتحدث عن محاولتينِ مختلفتينِ بشكلٍ جذري في التعاطي مع المجتمع وعن مستوى فهمه وفهم قضاياه الوجودية وتفهّم تحفظاته، عن قامتين كبيرتين مؤثرتين في الثقافة العربية “طه حسين” و”إدوارد سعيد” والتعاطي معهما في هذه المقالة سيكون مقتصراً على التأثير السوسيولجي (الاجتماعي) من باب التأثيرِ والتأثّر.
في لحظةٍ أدركتِ النُّخَبُ العربيةِ مدى تأخر العرب والتقدم الأوروبي الكبير وذلك عند مجيء الاستعمار الأوروبي وبداية اضمحلال الدولة العثمانية، عندها احتك العربي مباشرةً بالرجل الأبيض المدجج بالترَسانة التكنولوجيّة. وعندما عمل حاكم مصر “محمد علي باشا” منذ مطلع القرن التاسع عشر على إرسال بعثات للتعرف على الحضارة الأوروبية والدراسة في أهم جامعاتهم -والكثير من البعثات أُرسِلت الى جامعة السوربون في باريس -، حدث عند هذه النخب شيء أشبه بالدّهشةِ أو الصدمة عندما شاهدوا الفرق الهائل بين الحال في البلدان التي قصدوها التي ذهبوا إليها وحال بلدانهم التي تعاني التخلف والاستخفاف بواقع الأمور. كانت الحضارة الأوروبية في عواصمها آسرةً بكل ما فيها، من ناحية الإدارة والتنظيم والتطور التقني والاجتماعي. وجدَتِ النخب الثقافية والفكرية في هذه الحضارة المثالَ الأكمل لكل ما تعنيه كلمة حضارة، ولكنهم في سكرة الانتشاء والانبهار لم يهتموا كثيراً الى الدور الخطير الذي كان يمارِسُهُ الاستعمار الغربي في بلدانهم العربية من عنصريةٍ وخبثٍ ودهاءٍ وهو ما كانت تعانيهِ طبقاتُ المجتمعِ بمختلفِ أطيافِه، لذلك، بينما النخبُ القادمةُ من الغرب الأوروبي مبهورةً ومتحمّسةً لتطبيقِ النموذج الغربي كان المجتمعُ والنخبُ الأهليةُ تعاني من وطأةِ الاستعمار الأوروبي ذاته، الأمر الذي تسبّبَ في تناقضاتٍ إشكاليّةٍ كبيرة أدّت الى تباعد النخب الثقافية التي تتبنى الأفكار الليبرالية الحداثية عن واقع المجتمع وهمومه، وتباعَدَ المجتمعُ عنها.
تبنّى “طه حسين” النموذج الأوروبي الليبرالي والمنهج الديكارتي، ولتميزِه في الأدب والتاريخ الإسلامي حاول تطبيق المنهج الديكارتي على الشِّعر العربي وأزمِنةِ ما قبل الإسلام المعروفة بالعصرِ الجاهلي وهي واحدةٌ من أكثر الدراسات العربية إشكاليةً مثيرةٌ للجدل الطويل. يقوم المنهج الديكارتي على الشَكِّ في كل اليقينيات العقلية بهدفِ إعادة بناء الفكر والوصول الى معرفةٍ يقينية، شَكَّ ديكارت في كل التصورات الحسية التي تنعكس على الاستنتاجات العقلية إلا أنه أبقى على العقل الإدراكي الذي سيتيح له معرفة كينونتِهِ وإثباتِ وجودِه (أنا أفكر إذن أنا موجود)، أو بعبارة أخرى ما دمتُ قادراً على التفكير فأنا موجود صيغةُ الوجودِ هنا مرتبطةٌ بالوجودِ الواعي الفاعل.
لا يُخفى أن أبي حامد الغزّالي قد نظّر لفلسفةِ الشك بهدف الوصول الى معرفة يقينية في القرن الثاني عشر أي قبلَ خمسةِ قرونٍ من مَولدِ ديكارت القرن السابع عشر، والغزّالي كان قد شك في كل المُسلّماتِ العقليةِ وتأمَّلَ انعكاساتِها على استنتاجات وتصورات الإنسان، بدأ بالشك في المحسوسات؛ مثلاً: الثقة بحاسّة البصَر في تعاملها مع الظل أو طول وقصر الشجرة مقارنةً بالمسافة، ثم وجد أن العقليات غير يقينية فعرّضها للشك من قبيل ما يأتي في المنام من حلم أشبه باليقظة، حتى وصل الى الشك في الضروريات العقلية وهي استكمالاً للعقلياتِ وتُعرف أيضاً بالأحكام القَبْليّةِ؛ منها مثلاً استحالة جمع النقيضينِ وأن الجزءَ لا يتضمن الكل… ووصل الى ذِروة الشك حين بدأ يتأمل في الوجود برمته؛ لعل كلَّ ما نراه ونتصوره خيالٌ أشبه بالحلم – وهو هنا تعدى ديكارت في حالة الشك – إلا أنه عاد عن ذلك لا عن طريق البرهان العقلي وإنما بواسطة الكشف الصوفي، وعلّلَ عودته بأن هذه الضرورات أعمدةُ العقل تحفظه حتى لا ينهار، يقول الإمام الغزّالي: “وعادتِ النّفْسُ الى الصِّحةِ والاعتدال، ورجعَت الضرورياتُ العقليةُ مقبولةً موثوقاً بها على أمنٍ ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلامٍ بل بنورٍ قذفه الله تعالى في الصدر؛ وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظَنَّ أنّ الكشْفَ موقوفٌ على الأدِلّةِ المحرِّرة فقد ضيّقَ رحمة الله تعالى الواسعة” (المنقذ من الضَلال).
للحديث تتمة في العدد القادم