تجربة شخصية
يتحدث الكتاب الشهير “من الذي حرك قطعة الجبن الخاصة بي؟”، لمؤلفه سبنسر جونسون، عن التغيير الذي يحصل حين نفكر بطريقة مغايرة للمألوف. هذا الكتاب، الذي يقع ضمن كتب التنمية والتحفيز، أخذ صيتاً واسعاً في وقته، ولا يزال يستحضر كلما مرت أنماط التفكير المختلفة التي تنتهج طرقاً مغايرة، حتى لو كانت الظروف هي نفسها. استحضرتني فكرة هذا الكتاب حين دعا المدرب في إحدى الدورات التدريبية إلى ابتكار تركيبات جديدة من أشكال: مثلث/ دائرة/ وخط مستقيم. وبما أن العمل كان جماعياً؛ قام أحد زملاء المجموعة بتكوين شكل شبيه بخيال المآتة، حين رتب الشكل على الترتيب التالي من الأعلى للأسفل: دائرة/ مثلث وبينهما الخط المستقيم. العمل المشترك ممتع؛ لأن هناك دهشة ولطافة واستكشافاً لطريقة تفكير الآخرين، حتى جاء الاعتراض الممتعض: هذا تشبه بالصليب. لا يجوز!
هذه الجملة كانت كفيلة أن يمحو صاحب الشكل مقترحه بلا نقاش حتى! لم يدافع عن أن الشكل مجرد أصلاً، ولا يعني أي شيء بالتأكيد. لم يتشبَّث لثانية بفكرته! هل كان مقتنعاً، أم قلقاً من فكرة القرب من أفكار غير المسلمين – أياً كان الطرف الآخر- أو اعتقاد الآخرين بأن لا مشكلة لديه مع أي مختلف، وهذا يجعله محل تعجب وشك؟ وهل الدين، أو عقيدة الفرد، يحتاجان إلى طمس الآخرين من أجل الدفاع عنهما؟ وكنت أتساءل إزاء هذا الموقف الذي -قد- يبدو معتاداً: ما نوع القلق من وجود رمز ديانة أخرى، إذا كان القلب عامراً بالإيمان حقاً؟ ما الضير من الانفتاح على الآخرين في الحدود المتاحة، من باب التقارب على الأقل؟ وما الذي يدفع الزميل الآمر، والمستجيب، إلى الانصياع بشكل يطمئنان فيه ألا تجاوز في المسألة؟ مَن المستفيد من مسألة التشويش بين أي مختلفين؟ وعلى اتصال بالفكرة؛ هل مسألة وجود الآراء الحادة المتطرفة واللافتة على نحو عجيب، في تعليقات منشورات التواصل الاجتماعي، صدفة، أم تأثر، أم لجان إلكترونية تعبث من أجل توجيه الرأي وتكوين وجهة نظر جمعية مصدرها تحريض غير مباشر؟ والأكثر من هذا؛ كيف نجرؤ على مهاجمة أي شيء لا نعرف منه إلا فكرة سطحية، أو عنواناً، وبناء على آراء مسبقة تقودنا؟
على نحو أراه متصلاً بشدة؛ ناقشتُ قبل شهر وأيام، أطروحة الدكتوراه التي أخذت مني سنوات بحث جادة، بين الفكرة والتنفيذ، حين تكشفت الفكرة أمامي في سنوات الوعي الأولى في السكن الجامعي بمنطقة الشامية بدولة الكويت. هناك تشاركنا الغرف والحياة مع زميلات خليجيات جمعتنا الدراسة، بعيداً عن الأهل. وفي أحد الأحاديث الطويلة بعد اليوم الجامعي، حدثتني زميلة عن “نقاء” دم قبيلتها الذي لم يتزاوج مع السود! أخذت بعض الوقت لفهم الفكرة، وحين استوعبت التعالي غير المبرر على الإطلاق، باغتّها بسؤال: كيف هذا، وزميلتنا الأخرى تحمل نفس اسم القبيلة، ولون بشرتها مختلف؟ فأجابتني بما جعلني أتيقن أن المسألة طبقية، بفجاجة غير محتملة. لاحقاً، توالت أمامي الصور المتفرقة التي ترسخ مفاهيم بغيضة؛ أعمقها سطحي، وخلاصتها هي أنك حين لا تشبهني، فأنت مختلف عني، وغالباً أقل مني. لِمَ على الإنسان أن يتحمّل انخفاض التقدير عند الآخرين، لمجرد اختلافه القدري؟
وعندما صدر كتاب الباحث البحريني د. نادر كاظم في العام 2004 “تمثيلات الآخر: صورة السود في المتخيل العربي الوسيط”، الذي أحدث ضجة تليق بالمنجز، يفكك فيه الكتاب التمثيل السلبي لصورة الأسود، وكأنَّه المفتتح الذي ينتظره كثر! إذ توالت بعدها روايات وكتب معنية بالسود بشكل صريح ومباشر في منطقة الخليج، منها على سبيل المثال لا الحصر: رواية سعداء الدعاس “لأني أسود”، ومنيرة سوار “جارية”، وبحوث قيمة في السنوات الأخيرة مثل “تاريخ العبيد في الخليج العربي” للباحث د. هشام العوضي، ومؤخراً د. نورة محمد فرج في بحثها عن “العنصرية في الخليج: إشكالية السواد”، وغيرها من الكتب والروايات المكاشفة التي تؤيد على اقتحام المناطق المغلقة. قبلها، كنت قد قررت فكرة المشروع، وأنتظر بلورته عبر مزيد من الاطلاع الذي يمنحني دراية وفهماً أكبر للمسألة، خصوصاً في مجالي المتخصص والأثير بفن المسرح.
في بحثي المعنون بـ “حضور السود في المسرح الخليجي: الآخر من منظور الدراسات الثقافية”، كان السؤال المتكرر منذ كان المشروع فكرة، علامات استفهام كثيرة يوجد في بعضها اتهام مستعجل بالعنصرية، وهذا أبعد ما يكون عن الدراسة تماماً. ولأنه موضوع حساس، نتيجة ارتباط اللون الأسود بتاريخ من العبودية وتبعاتها المؤلمة، كان لا بد من التعرّض لهذا المكون المهم في النسيج الخليجي وتناولِه بشكل رئيسي، وبخاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن هذه الفئة الاجتماعية غير موجودة في كتب السير والتاريخ والدراسات البحثية إلا بشكل هامشي. إذاً: فمنطلق هذه الدراسة هو الالتفات إلى التعددية والاختلاف اللذين ميزنا بهما الله، وجعلنا سلالات، وألواناً، وأدياناً، ومذاهب، وطبقات اجتماعية، ونقائض أفكار، وعوضاً أن يكون هذا الاختلاف سبيلاً إضافيّاً للتكامل والتعايش المجتمعي، صار التصنيفُ العنصري والطبقي، والعرقي، والطائفي هو المألوف.
لذا، فهذه الدراسة تخوض في المنطقة غير المحظورة، كما قد يوحي عنوانها؛ لكن تعاطي المجتمع الخاطئ هو ما جعلها كذلك، ولو تم التعامل معها بحياد وموضوعية لأمكن أن تكون مقبولة ومفهومة لمن يعنيهم الأمر. وعليه، فهي تهدف بشكل غير معلن إلى مقاومة نعرة التعصب لمحددات الهوية.
وعودة للسؤال: لماذا أسود؟ تمثل فئة السود مكوناً أساسياً في المجتمع الخليجي الذي يحتوي، مثل أي مجتمع ساحلي، على خليط من الأجناس والأعراق. وهناك مصادر تقول إنه في فترة ما، وصلت نسبة السود إلى 17% من سكان الخليج. فإن صحت هذه النسبة، كيف يمكن إغفال مكون مهم من مكونات المجتمع الخليجي، ودوره في بنائه وتكوينه؟ وأعي تماماً السهام التي تطلق على شكل انتقادات، بسبب محاولات المجتمع إنكار فكرة الفوارق الطبقية، رغم تأكيد الشواهد على وجودها، وهذا ما تكشفه العينات القصدية داخل البحث، لدرجة استخدام لفظة الأسمر بدلاً عن الأسود؛ إشارة، بل ودليلاً على الوعي بعنصرية الكلمة بكل مدلولاتها السلبية المتعلقة بتاريخ اللون، لذلك يتم الاستبدال؛ حرصاً على عدم إثارة حفيظة الآخر الذي يرى في اللون ما يشينه أو يعاب عليه. وارتباط اللون بالعبودية في الخليج هو ارتباط غير شرطي، ومحض مفهوم جمعي لفئة، ذلك أن عدة شواهد بعضها مكتوب وأغلبها شفاهي، توضح أنه ليس كل السود عبيداً، وأن العبيد يمكن أن يكونوا من البيض، حسب مكان استقدامهم.
لماذا الأسود على وجه التحديد؟ الأسود يختزل كل الآخرين المختلفين عن المركز. كل الفئات الأخرى يمكنها تغيير أي اختلاف، إلا الأسود؛ يولد بلون بشرته ويموت بها، وما بينهما يتحمل عبء اللون في المجتمع الذي يصنفه مسبقاً.
أما عن اختيار موضوع السود، فمردُّه إلى أنه لم يأخذ حقه أبداً من البحث كما ذكرت، وذلك بسبب حساسيته، وكأنَّه مزيد من التهميش لهذه الفئة. لذا فقد اعتبرت هذا البحث استكمالاً لما بدأته في مشروع الماجستير حول “صورة المرأة في السينما البحرينية”، واتخذت من فيلم (حكاية بحرينية) نموذجاً للتحليل. فاعتباراتي -كباحثة- لإنصاف وتسليط الضوء على فئة مهمة ومهمشة موجودة ضمن المكون الرئيس في مجتمعات الخليج، هي دافع مهم للكتابة عنها، وإبراز دورها الفعلي، وهو أيضاً تحريك قطع الجبن الوهمية التي يظن أصحابها أنها موجودات مسلَّم بها، متمثلة في الرموز التي أشار إليها مؤلفها جونسون، وجاور بين فكرتي التمسك والخسارة، أو التجاوز والفوز؛ أن تكون قزماً تستخدم المعتقدات الموروثة للوصول للجبن، أو فأراً تعتمد الشم والتفكير المجتهد للخروج بأفكار غير مألوفة، والفرق بين هذا وذاك يأتي عبر التفكير وإعمال السؤال: لِمَ لا؟ أو ماذا لو؟ ولأن الجميع يرزق العقل الذي ينمو مع مصادر المعرفة، ويقوده لمعرفة أوسع، لكن جزءاً من البشر يفضل أن يكون حبيس منطقة الأمان المحاطة بأسوار المجتمع، وقشور الدين، التي تبقيه مطمئناً، بعيداً عن أي اجتهاد يشعر معه بالمجازفة أو بالذنب، حتى وإن لم تكن حياته على هواه؛ عدا أنه سيفتقد ما أشار إليه “هاو” في كتاب الجبن، حين أدرك متعة أن يفكر خارج الأطر الوهمية: “عندما تتجاوز مخاوفك، ستشعر بالحرية”، حتى وإن كان نصيبه من الجبنة قطعاً صغيرة غير التي اعتاد عليها من قبل، عدا أنه أدرك أن قطع الجبن التي كانت متوفرة بكثرة وتضاءلت بسبب الاستهلاك -مثل الأفكار التي نعتبرها ثوابت- ليست لذيذة، وتؤكل رغم تعفنها.
وعلامة لدين سماوي، مثل الصليب المذكور، أو حتى صنم بوذي، يثير القلاقل التي تؤجج الخوف الإنساني غير المحمود، مثلها مثل الجبنة التي يسعى لها شخوص جونسون: الفأران، والقزمان؛ وفئة مثل السود تحجَّم وتصنَّف حسب مجتمعها كما فئات أخرى، كلها علامات كشف سوءات البشر، وعجزهم أو تخاذلهم عن مواجهة مخاوفهم، سواء كانوا في موقف القوة أو الضعف. هذا التهاون والعجز لخَّصه القزم “هاو” حين كتب رسالة على الحائط لصديقه “هيم” ليحفزه على إعادة الجدولة والتفكير: إن لم تتغير، فمن الممكن أن تفنى!