بقلم: Andrea Donofrio
ترجمة: غريب عوض
بعض خصائص الشيوعية الأوروبية
لم تَكُن الشيوعية الأوروبية ظاهِرة جديدة، بل كانت في الواقع’ تكثيفاً للتوجهات‘ التي كانت موجودة في هذهِ الأحزاب في السنوات السابقة‘. وكما ذكرنا بِعاليهِ، كانت في معظمها نتيجة لأزمة السبعينيات، كان عَقداً حاسماً من التغيير بين مرحلتين مُختلِفتين: حِقبة النمو الذي قد بدأ بعد عام 1945، وبداية عالم جديد تَميّز بتغييرات كُبرى. وفي هذا السياق، بدأت الأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية التفكير بدرجة من فك الارتباط مع التفسيرات الكلاسيكية للماركسية اللينينية، وخِطابها، خوفاً من أن تُصبِح مُجرد مجموعات تشهد على ما يحدث – طوائف يوتوبيا غير قابلة للتحقيق.
في هذه الأحزاب، كان النِقاش يدور بشكل رئيسي بين أولئك الذين يُؤدون إعادة تجديد استراتيجية الحزب وطريقة عمله بما يتماشى مع المجتمعات التي كانوا ينشطون فيها، وأُولئك الذين دافعوا عن الاشتراكية السوفيتية. وشعر قادة الشيوعية الأوروبية بأن العبء العقائدي القديم أدى إلى تقليص فُرَصُهُم في كسب الدعم في البُلدان الأكثر تطوراً ثقافياً واقتصاديا من الاتحاد السوفييتي قبل الحرب. إن الالتزام بالشيوعية الأوروبية يمكن اعتباره تمريناً في السياسة الواقعية، مدعوماً بِفكرة مفادُها أنهُ من الممكن وضع مسار وطني ومُستقل يأخذُ بعين الاعتبار الظروف المُحددة للبُلدان المُختلِفة – تاريخها ومؤسساتها وخصائِصُها الاجتماعية والثقافية – عند تحديد كيفية تحقيق هدف إنشاء مجتمع اشتراكي. وضمن هذا النهج اقترحت الأحزاب الشيوعية الأوروبية أن تحول المجتمع إلى الاشتراكية ينبغي أن يكون مُتدرجاً وديمُقراطي وسِلمي ووطني.
كان مُصطلح الشيوعية الأوروبية – وهو مُصطلحٌ جديد غير كامل – يهدف إلى الإشارة إلى تطوّر جديد إلى حدٌ كبير. ورقم أن بعض الأحزاب كانت قد طرحت بالفعل فكرة الطريق الوطني نحو الاشتراكية (على سبيل المِثال، الأحزاب الشيوعية في إيطاليا وفي فرنسا وفي إسبانيا)، فإن كلٌ من هذهِ الطُرُق الوطنية كان يُنظَر إليهِ في السابق باعتباره مُختلفاً عن الطُرُق الأُخرى، وذلك بسبب الوضع التاريخي الخاص بكلٌ منها. وقد أوضح استخدام المُصطلح الجديد الوجود المُحتمل للشيوعية “الغربية”، المُوحدة والمُتميّزة، والتي من شأنها أن تأخذ بعين الاعتبار كلُ من التفردات الوطنية ووجود عددٌ من العناصر المُشتركة فوق الوطنية.
وخلال عملية ’تكوين‘ الشيوعية الأوروبية، اتبعت البُلدان الثلاثة المُشارِكة في المشروع مًسارات مُختلِفة: ربما كانت إيطاليا هي الأمةُ الأولى للشيوعية الأوروبية، ونقطة البِداية للعملية وأول من روج لمثل هذا المشروع؛ وكانت مُساهمات الزُعماء السابقين للحزب الشيوعي الإيطالي أنطونيو غرامشي Antonio Gramsci و بالميرو تولياتي Palmiro Togliatti، فضلاً عن فكرة إنريكو بيرلينجير Enrico Berlinguer المُعاصِرة عن “التسوية التاريخية”، أساسية في إعداد المشروع وأرست الأُسُس لتطوره المُستقبلي.
ومن جانبهِ، يمكن اعتبار الحزب الشيوعي الفرنسي بمثابة “القفزة النوعية” الأكبر. فقد كان الحزب الشيوعي الفرنسي هو الحزب الشيوعي الأكثر تأييداً للستالينية بين الأحزاب الشيوعية الأوروبية، وكان قادتهُ دوماً الأكثر تأييداً للسوفييت. ولكن في سبعينيات القرن الماضي، بدأ الحزب الشيوعي الفرنسي في اتخاذ مواقف أكثر انتقادا، فروّج لِفِكرة “الطريق إلى الاشتراكية بألوان فرنسا”. وكان قبول مبادئ الشيوعية الأوروبية، إلى جانب درجة من القومية، سبباً في دفع الحزب الشيوعي الفرنسي بعيداً عن موسكو نحو المواقف المُشتَرَكة للحزب الشيوعي الإسباني والحزب الشيوعي الإيطالي.
وأخيراً، بالنسبة لقضية الحزب الشيوعي الإسباني، فإن الشيوعية الأوروبية مثلت نقطة نهاية التغييرات الاستراتيجية والنظرية التي كانت تحدث على مدى عددٌ من السنوات السالفة ولا تزال مُستمرة، تدعمها حقيقة أن الحزب الشيوعي الفرنسي والحزب الشيوعي الإيطالي قد شَرَعا في مَسار مُماثل. وفي أسبانيا، عَمَلت الشيوعية الأوروبية على ترسيخ وتعميق سِلسِلةٌ من القرارات التي قد تم اتخاذها مُنذُ خمسينيات القرن الماضي.
من بين العناصر الأساسية للشيوعية الأوروبية، ينبغي تسليط الضوء على ما يلي: في البدء كان هناك تأكيد على استقلالية مُختلف الأحزاب الشيوعية في تطوير خطها السياسي بِحُرية، بانفصال واضح بشكل مُتزايد بين هذهِ الأحزاب وشيوعية موسكو. وقد أرتاب الشك الأحزاب الشيوعية في أسبانيا وفرنسا وإيطاليا حول وجود حزب قائد أو مُرشِد يمكنها أن تخضع لهُ. ثانياً، كان هناك إعادة تعريف للعلاقات مع الأحزاب العُمالية الأخرى، وخاصةً مع الأحزاب الاشتراكية والديمقراطية والاشتراكية الديمقراطية. ثالثاً، كانت هناك مُحاولة لتكييف مفهوم الاشتراكية واستراتيجية الانتقال مع الظروف الخاصة للرأسمالية المُتقدمة فضلاً عن خصوصيات كلُ بلد.
وأخيراً، حاول الشيوعيون الأوروبيون أيضاً أن يُميّزوا بأنفسهم عن الديمقراطية الاجتماعية، في الأساس من أجل تفادي نقد المُحللين مثل إيرنيست مانديل Ernest Mandel صاحب ’الديمقراطية الاجتماعية‘ والشيوعية الأوروبية، أو غيرهم ممن وصفوا المشروع الشيوعي الأوروبي بِأنهُ شكل من أشكال الديمقراطية الاجتماعية المُتدهورة. وجاءت الاستجابة الأكثر صراحة لهذهِ الانتقادات من زعيم الحزب الشيوعي الإيطالي أنريكو بيرلينجير Enrico Berlinguer، الذي زعم أن الشيوعية السوفييتية والديمقراطية الاجتماعية في أوروبا الغربية “اقتصرتا على إدارة الرأسمالية”. ولهذا السبب، دافع بقوة عن الحاجة إلى إيجاد طريق ثالث ورفض فكرة مُحاولة إضفاء الطابع الاجتماعي الديمقراطي على الحزب الشيوعي الإيطالي.
ومن بين العناصر المذكورة بِعاليه، كانت أول نقطة لا شك ذات اهتمام خاص:
أعلنت الشيوعية الأوروبية في تصريحات مُتعددة مُشتركة وفي مؤتمرات ودولية، إن القاعدة العامة لمشروعها كان الاعتراف الضروري بالاستقلالية التامة لِكُلِ حِزب في وضع خطهُ السياسي الذاتي. إن التحرر من الوِصاية التقليدية لِموسكو، من حيثُ المبادئ التنظيمية والدعم الاقتصادي وحتى الارتباط العاطفي، كان الخطوة الأولى نحو التشكيل اللاحق لِقطبٌ شيوعي أوروبي من شأنهِ أن يُنسق بشكل فعّال تًصرُفات الأعضاء المُختلفة ويجعل الهدف المُعلَن للتحول الاشتراكي قابلاً للتصديق.
ومع ذلك، لم يتحقق الانفصال بشكل كامل أبداً: فالأحزاب الشيوعية الأوروبية لم تنفصل رسمياً قط عن الاتحاد السوفييتي، على الرغم من أنهُ كان هناك ’التباعد الواضح، والنِزاعات المَريرة، والتأكيد الواضح على الاستقلالية في صياغة خطها السياسي الخاص.
والعُنصر التعريفي الآخر للشيوعية الأوروبية الذي يستحق الذكر نظراً لوزنهِ في مُناقشات الحزب الداخلية وفي انتقادات مُنتقديه هو العِلاقة بين الاشتراكية والديمقراطية. طَرَحَ الشيوعيون الأوروبيون مفهوماً جديداً للديمقراطية، الذي أصبح مُلائماً على نحوٍ خاص حينما بدأ إعادة تقييم فكرة الديمقراطية في السبعينيات، كنتيجة لثلاثة عوامل مُترابِطة: رُعب التجربة الفاشية؛ والانهيار البطيء للأسطورة السوفييتية (وخاصةً بعد إدانة جرائم ستالين في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي)؛ والإدراك بأن الطريق الثوري إلى الاشتراكية قد تراجع نِهائياً باعتباره منظوراً استراتيجياً في الديمقراطيات البرلمانية الحديثة حيثُ كانت الرأسمالية أكثر تطوراً.
في رأي هذهِ الأحزاب: ’إن الاشتراكية سوف تُمثّل شكلٌ أعلى من الديمقراطية والحُرية: الديمقراطية المُحققة في شكلها الأكثر اكتمالا؛ إن الطريق إلى الاشتراكية وبِناء المجتمع الاشتراكي لابُدَ أن يحدث في إطار الديمقراطية المستمر للحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. كان الطرح من أجل ديمقراطية تقدُمية التي تمتد عبر المجتمع من خلال مؤسسات نيابية، تدعم ديمقراطية شعبية حقيقية للجماهير. تم تقديم المفهوم الجديد للديمقراطية، وفقاً لفكر غرامشي، كجزء من عملية نِضالية من أجل ’الهيمنة‘ في جميع نواحي المجتمع المدني (ثقافياً واقتصاديا وسياسياً):
إن الأسلوب الديمقراطي لا يتمثل في الانتخابات، بل في التعبير عن المُشاركة في المؤسسات من خلال التعبئة الجماهيرية والتحول التدريجي لهذهِ المؤسسات. ولا يقل أهمية عن الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية إصلاح أجهِزة الدولة (أنظر إلى مِثال تجربة جمهورية تشيلي) بالمعنى الديمقراطي للتمثيل والمُشاركة والسيطرة.
وفي الوقت نفسه، أعلنت الشيوعية الأوروبية التخلي عن دكتاتورية البروليتاريا، التي لم تعُد تعتبر ’مرحلة ضرورية‘ – أو ’مرحلة مؤقتة وانتقالية‘ باللغة الماركسية – لتأمين ظهور المجتمع الإشتراكي. ومع ذلك، فإن الأحزاب الشيوعية الأوروبية لم تتخلى عن مُصطلح “دكتاتورية البروليتاريا” دَفعةٌ واحدة، بل كلٌ حسب عصرهِ وأساليبه. لقد حاولوا أن يجعلوا هذا التنازل لهُ أقل قدر مُمكن من التأثير العاطفي على النزعة النِضالية، حتى لا ’يَصدِموا‘ أو يُضلِلوا ناخبيهم. ولكن التخلي عن دكتاتورية البروليتاريا كان مؤلِماً وتدريجياً؛ وحدث دون نقاشات عميقة وعريضة داخل الأحزاب، وقد حدث هذا التخلي دون نِقاش واسع وعميق داخل الأحزاب، واقتصر على ’مَعضِلة بلاغية‘: دكتاتورية البروليتاريا أو الطريق الديمقراطي.
وأخيراً، ومن بين مِيزات ومُقترحات المشروع الجديد التي تستحق تسليط الضوء عليها، أعتبرت الأحزاب الشيوعية الأوروبية أن التحول الإشتراكي لا يمكن تحقيقه إلا من خلال حركة جماهيرية قوية تحشد الطبقة العاملة. وهذا التحول يَتَطلّب وجود مؤسسات ديمقراطية تُمثّل السيادة الشعبية بشكل كامل، وضمان وتوسيع سُلطتها، والمُمارسة الحُرة لحق الأقتراع العام المُباشر والإنتخابي، الحُر والسُري.
إن إنشاء التحالُفات بقوى ديمقراطية شعبية، مُتحِدة حول برنامج كان هدفهُ الرئيس ’تحولٌ إجتماعي إقتصادي‘، أخذ أسماء مُختلِفة وفق البلد المُعيّن: التسوية التاريخية، التنسيق الديمقراطي، أو إتحاد اليسار. وكان الهدف هو خلق وِحدة ديمقراطية قوية بما يكفي لتحدي القوى المُحافِظة الرجعية وإفساح الطريق أمام قيام الإصلاحات الإشتراكية في المجتمع:
في ظِل هذهِ الشروط، يَمرُ الدفاع عن الديمقراطية، والسيرُ نحو الإشتراكية من خلال تحالُف الشيوعيين والإشتراكيين والديمقراطيين والمسيحيين والقوى التقدمية الأخرى … وهذهِ السياسة الطبقية الحقيقة الوحيدة التي يمكن لأوروبا إتباعها في هذا الحِقبة الزمنية. إن إعادة وتكرار المُمارسات الطائفية التي عفى عليها الزمن، لن يؤدي هذا إلا إلى عِزل الطليعة الإشتراكية، وتقسيم قوى التقدم، وإعداد هزيمة جديدة للحركة العُمالية.
ومن المُفارقات أن كِتاب “الشيوعية الأوروبية والدولة”، الذي كتبهُ في عام 1977 سانتياغو كاريلو Santiago Carrillo السكرتير العام السابق للحزب الشيوعي الأسباني، والذي مثلَ ’قِمة‘ النجاح السياسي للسياسة الشيوعية الأوروبية الجديدة – ليس بسبب مُحتواه فَحَسب، بل بسبب الجدل الذي أثارهُ في المقام الأول – كان بِمثابة نذير بِحدود المشروع. بعد نشر هذا الكتاب، تراجعت الشيوعية الأوروبية تدريجياً، حيثُ تلاشت الحركة واستراتيجيتها في غياهب النِسيان: فقد بلغت ذروتها السياسية، ومن هُنا بدأ إنهيارها. وفي حين كانت ذروتها من عام 1975 إلى عام 1980، لم يتحدث أحد عن الشيوعية الأوروبية بأي أمل بحلول عام 1983. وكان الإستشهاد بِها في المقام الأول لوصف أحداث العقد الماضي: فلم يتبقى سوى آثار قليلة لشعبيتها، أو “الروعة” التي حققتها في قمة مدريد في مارس/آذار 1977. وكان الحزب الشيوعي الإيطالي حِزباً مُحاصراً سياسياً، وكان الحزب الشيوعي الأسباني مُفلساً بعد هزيمته الإنتخابية، الأمر الذي تسبب في جدلٌ كبير داخل الحزب (الذي بلغ ذروتهِ بإستقالة سانتياغو كاريلو). ولم يتذكر أحد الحزب الشيوعي الأوروبي الفرنسي.